التركيز الدولى على العملية العسكرية التى يقوم بها الجيش الوطنى الليبى فى طرابلس، يعكس اهتماما بالغا، يؤكد أن الأوضاع فى العاصمة غدا لن تشبه البارحة،على الأقل بالنسبة لمصير العصابات المسلحة التى كانت تدعم قوى سياسية محلية، وتقف خلفها جهات خارجية لزاوية تمكين إسلاميى ليبيا من السلطة مستقبلا.
الترتيبات التى قامت بها البعثة الأممية تقود إلى نفق مظلم، لأنها تعاملت بليونة زائدة عن الحد مع الميليشيات والدول التى وقفت معها.
لذلك شعر هؤلاء بالقلق من المجابهة الصارمة فى طرابلس، والتى تخوضها القوات الليبية تحت قيادة المشير خليفة حفتر، الذى شدد على أن هدفه توحيد القوى الوطنية ومحاصرة العصابات والكتائب الخارجة على القانون، بعد أن جعلت العاصمة رهينة لإرادتها القاتمة.
يبدو أن التيارات المؤدلجة تعيش خريفا فى المنطقة، عقب تلقيها ضربات قاصمة فى سوريا والعراق، وتشريد فلولها العسكرية والسياسية فى كثير من الدول، وانحسار عدد المؤيدين لها. وتواجه مصيرا غامضا فى الجزائر والسودان، وتتعرض لمضايقات وعراقيل تمنع نجاحها فى حصد مكاسب كبيرة من وراء الاحتجاجات الشعبية فى البلدين.
وتصاعدت حدة الرفض فى تونس، وهناك استعدادات تجرى لتقليص حضورهم السياسى فى الاستحقاقات المقبلة.
التطورات التى أدت إلى هذه المشاهد من الصعوبة أن تكتمل حلقاتها فى ظل انتعاش إسلاميى ليبيا، ومواصلة هيمنتهم على مقاليد أمور سياسية وأمنية واقتصادية متعددة، والتطلع إلى جنى أرباح من وراء التئام الملتقى الجامع ، والذى أضطر المبعوث الأممى الإعلان تأجيله، بعد أن أصبح مهددا بالإلغاء عمليا. كان من الضرورى التحرك لكسر هذه الشوكة قبل أن تتحول إلى ساحة لاستقبال الهاربين من سوريا. ويخرج الملتقى المعلب السابق التجهيز باتفاق سياسى جديد يعزز حضور القوى الإسلامية فى السلطة، ويفتح الباب لمناوشات تبقى على حظوظ بعض القوى الشاردة. الطريقة التى تعاملت بها دوائر خارجية مع تحرك القوات الليبية نحو طرابلس، كشفت فى مجملها عن خلافات عاصفة بينها، بسبب تضارب المصالح وتباين آليات الحفاظ عليها، وأكدت عدم رفض الخطوات التى تساعد فى التخلص من نفوذ ميليشيات أحرجت بعض المنخرطين فى الأزمة، بالتالى جاءت غالبية البيانات مواربة والتعليقات فضفاضة، بما فهم منها عدم الممانعة التامة لعملية طرابلس.
توقيت الخطوة الجريئة التى أقدم عليها المشير حفتر كان موفقا، حيث راعى فيها الأجواء العامة فى الداخل والخارج، والتى تصب فى مصلحة ضرورة وقف الانفلات فى طرابلس عبر الأدوات العسكرية، طالما فشلت الوسائل السياسية والمجتمعية التقليدية.
على الصعيد الليبي، سئم المواطنون من تمادى الأجسام السياسية الضعيفة فى التعاون والتنسيق مع الميليشيات ونهب ثروات البلاد وتوزيعها على الأقاليم بصورة غير عادلة. وكرهوا الخلافات التى أدت إلى انسداد أفق الحلول الجادة. وتيقنوا أن الخطوات التى تتبناها البعثة الأممية تعيد تكرار أخطاء سابقة، وتفتح الباب على مصراعيه لمنح الجماعات المسلحة دورا قانونيا فى الخريطة السياسية والأمنية الجديدة.
نجاح الجيش الليبى فى دخول طرابلس من جهة الجنوب واقترابه من السيطرة على الغرب والعاصمة، يشير إلى تعاظم دوره المحوري، وأن هناك تفاهمات سياسية صريحة وضمنية عقدت مع جهات محلية سهلت مهمته. وبدت الفصائل المسلحة التى تنتمى لقبائل كبيرة ومثلت عائقا رئيسيا من قبل أكثر اقتناعا بالدور الوطنى للمشير حفتر، وتجاوزت مشكلات وحساسيات نشبت الفترة الماضية. على الصعيد الخارجي، قرأت خطة تحرير طرابلس جيدا التطورات الإقليمية وما حملته من مفاجآت سياسية، وسعت إلى الاستفادة من ارتباكات بعض القوى الدولية التى لها يد طولى فى الأزمة الليبية، لحسم كثير من الأمور المعلقة، وتقليل حدة ردود الأفعال على عملية من المتوقع أن تثير غضب الرافضين لبسط المؤسسة العسكرية سيطرتها على كامل الأراضى الليبية. النظام التركى المعروف بدعم الميليشيات وتهريب الأسلحة، يعيش انتكاسة سياسية بعد النتائج السلبية التى حققها فى الانتخابات المحلية أخيرا، ومع تزايد توتر علاقاته مع الولايات المتحدة ودقة موقفه فى التعامل مع الروافد الجديدة للأزمة السورية. وكلها مؤشرات كبحت قدرته على مناصرة الكتائب المسلحة فى مأزقها. كما أن قطر، وهى اليد الثانية الضالعة مباشرة فى تأجيج الأزمة مكبلة بقيود تحد من حركتها المادية.
الجزائر مشغولة أيضا بتطورات أزمتها الداخلية، ما أجهض اعتراضا سابقا لجيشها حول دخول طرابلس بالقوة العسكرية، بما قلل من رهان التنظيمات الإسلامية على حصانة اعتقدت أنها بحوزتها لتحجيم رغبة القوات الوطنية فى عودة الأمن والاستقرار للعاصمة الليبية.
الحصيلة التى يمكن الوصول إليها، إذا مرت عملية طرابلس بسلام، تؤكد أن المجتمع الدولى لم يحسن قراءة الأزمة الليبية، وفشلت قواه الحية فى التعامل مع التركيبة المجتمعية الدقيقة، وأفضى انسياقها وراء الجماعات الإسلامية إلى تبنى توجهات مغلوطة، ساعدت على تمديد عمر الأزمة. علاوة على إعادة الاعتبار لرؤية مصر بشأن أهمية توحيد المؤسسة العسكرية تحت مظلة ضامنة للاستقرار فى الدولة الليبية. وهى الجهة الوحيدة القادرة على إنهاء عصر الميليشيات، ووقف تبديد الثروة على يد جماعات تتطلع للتحكم فى مفاصل السلطة، ومنع وصول قوة وطنية إليها، وراودها حلم أن بقاء الأوضاع المتدهورة على ما هى عليه، إذا لم تتمكن من تحقيق أهدافها الخفية. قد يحقق أمانيها.
تقويض نفوذ الإسلاميين وقطع أذرعهم المسلحة فى طرابلس خطوة أساسية لاستعادة عافية الدولة، وهو ما ترمى إليه القوات الليبية التى حققت تقدما لافتا فى الشرق والجنوب، ويجب أن تتلقى دعما من القوى الراغبة فى تسوية سياسية حقيقية، والعمل على تخطى التعقيدات التى تنثرها دوائر محلية حظيت بشرعية دولية، ورفض الانجرار وراء البحث عن صدام بين شرائح ليبية مختلفة، يريد أصحابه عدم عبور الأزمة.
المجتمع الدولى تلوح أمامه فرصة لتصحيح جملة من أخطائه التى منعت حل الأزمة مبكرا، ويثبت قدرته على التحلى بمرونة تتجاوب مع المعطيات المصفوفة على الأرض، وينهى الارتباك الذى ضرب بعض قواه، ويوقف الجرى وراء طموحات كاذبة رفعت من شأن تنظيمات منحت شرعية دينية لقتل المواطنين، من خلال لعبة توزيع أدوار تتقاسمها الأجنحة السياسية والعسكرية.
نقلًا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع