الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة حاليا، تقول إنها عازمة علي طرح ما يسمي «صفقة القرن» للتوصل إلي تسوية سياسية تضمن الحفاظ علي مصالح إسرائيل.
ردود الأفعال العربية تؤكد أن التصورات الأولية عن الصفقة ظالمة، من الضروري ادخال تعديلات عليها تستجيب للحد الأدني للمطالب الفلسطينية، كي يتسني إيجاد فرصة لنجاح المبادرة التي ملأت الدنيا ضجيجا، وأفقدتها التسريبات الخاصة بها جانبا من بريقها السياسي.
الجولة التي قام بها جاريد كوشنير صهر الرئيس الأمريكي ومستشاره السياسي، وجيبسون جرينبلات مبعوثه للشرق الأوسط، وقادتهما إلي مصر والسعودية والأردن الأسبوع الماضي، كشفت عن تصميم أمريكي لعرض الطبخة رسميا، وعكست رغبة في توفير أجواء عربية مناسبة، قد تعوض الرفض الفلسطيني لها.
الرسائل التي تلقاها كوشنير وجرينبلات وغيرهما، كانت واضحة. تتمسك بحل الدولتين وتشدد علي عدم التفريط في الثوابت الرئيسية اللازمة، بما فيها القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. وهي ملامح تبغضها إسرائيل، التي ربما تبدي استعدادا للتعامل مع الصفقة كحيلة سياسية جديدة وليست كمدخل للتسوية النهائية.
المشكلة أن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية، تتعمد التركيز علي أن الطبخة تحظي بتفاهمات عربية كبيرة، للدرجة التي جعلت بعض الدوائر تمعن في تجاهل قيادة السلطة الفلسطينية، وتنذر بطرح الصفقة، بصرف النظر عن موافقة السلطة، لتوحي بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لديه من الثقة ما يمكنه من تنفيذ مبادرته.
الحاصل أن واشنطن تعرض طبخة وليس رؤية للتسوية، في وقت تبدو فيه ضعيفة سياسيا، ولا تستطيع تنفيذ أي مبادرة، مهما تبلغ درجة أهميتها، بمفردها ودون توفير درجة من الموافقة عليها من جانب قوي فاعلة في المنطقة.
الولايات المتحدة الآن تفتقد القدرة علي طرح إملاءات علي دول كثيرة. ربما كانت تمتلك هذه الموهبة سابقا، بحكم تعدد الإمكانات المعنوية وتنوع منطلقات القوة السياسية، وامتلاك أوراق كبيرة لممارسة أنواع عديدة من الضغوط. لكن حاليا تعيش في طور الانسحاب المخجل من مناطق النفوذ، ويظهر عليها الارتباك في ادارة كثير من الأزمات والصراعات. ولأنها تفتقر لكثير من مقومات التأثير فلن تتمكن من تمرير الصفقة بالطريقة التي تريدها.
كما أن واشنطن لم تعد المتحكم الوحيد في أوراق اللعب بمنطقة الشرق الأوسط، أو تستحوذ علي مفاتيح القضية الفلسطينية، وظهرت قوي موازية لها، يمكنها القيام بأدوار فاعلة تناهز الدور الأمريكي وربما تتفوق عليه، حيث تتعامل عمليا مع أزمات المنطقة وتراعي توازنات القوي المختلفة ولديها تقديرات واضحة للتسوية، ولا تتجاهل الوقائع علي الأرض والأدوات المطلوبة للحل.
لا أتحدث عن روسيا ومقارباتها الذكية في التعامل مع أزمات المنطقة، وفي مقدمتها سوريا، لكن هناك دولا أوروبية، مثل فرنسا وألمانيا، تحتفظ بمسافة عن الرؤية الأمريكية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، مما يمنح العرب هامشا جيدا لعدم الرضوخ لضغوط وابتزازات واشنطن.
لعل المصدات السياسية التي وجدتها واشنطن في مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، بعد قرار نقل السفارة الأميريكية إلي القدس العام الماضي، تنطوي علي دلالات سلبية كاشفة لحجم الدور والتأثير في العالم.
هي إشارة بالغة وربما كافية ليدرك العرب عمق التغير في الوزن الأمريكي بالنسبة للقضية الفلسطينية. الأمر الذي جعل ترامب يتريث كثيرا في عرض الطبخة التي أعدها رفاقه. فهو يريد أن يتوافر لها الحد الأدني من القبول والغطاء العربي.
كما أن نبرات التهديد، تلميحا وتصريحا، من حين لآخر في الخطاب الأمريكي، لم تحقق أهدافها، وفشلت في تغيير مواقف دول عربية مختلفة. بعضها يجيد التعامل مع فنون المناورات السياسية والألاعيب الأمنية التي درجت علي استخدامها واشنطن لثنيها علي تبني موقف مناهض لسياستها. وتمكنت هذه الدول من إفشال بعض المخططات التخريبية التي أرادت الولايات المتحدة اشغالها بها لإجبارها علي قبول رؤيتها الغامضة. التطور السريع في التفاعلات الإقليمية، منح فرصة جيدة لدول كثيرة لتنويع العلاقات. كما أن الضعف الظاهر في تبني أمريكا سياسات مرتبكة حيال عدد من القضايا، قلل من رهانات بعض الدول عليها، ودفعهم إلي توثيق العلاقات مع قوي أخري لديها رؤي خلاقة وأكثر جدوي، وتريد أيضا التوصل إلي تسوية سياسية بها قدر من الانصاف للشعب الفلسطيني.
الراحل ارييل شارون رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، كان رافضا بصرامة لخطة خريطة الطريق عام 2003، وأطلق تصريحات تحمل تهديدات مباشرة بعدم السماح بطرحها أساسا، لكنه اضطر في النهاية للتعامل معها، وتمكن من تخريبها عمليا، حتي جري دفنها، ولم يعد أحد يتحدث عنها. وأُلقي اللوم وقتها علي الجانب الفلسطيني.
من قبله اسحق شامير، لعب الدور ذاته، عقب انطلاق مؤتمر مدريد في أكتوبر عام 1991. يومها قال الرجل إنه لو اضطر للتفاوض مع الفلسطينيين سنوات طويلة لن يتنازل عن شيء. وبالفعل مضي نحو 27 عاما علي كلام شامير ولم يحصل الفلسطينيون علي دولة مستقلة.
قد تكون السلطة الوطنية، المكسب الرئيسي لمؤتمر مدريد، لكن الخلافات الحركية بين القوي الفلسطينية، شوهت التجربة وجعلتها عبئا بدلا من أن تتحول إلي مكسب سياسي. وهو ما استفادت منه إسرائيل، وعوض قادتها ما تصوروا أنه خسارة ونجحوا في تصويب السهام نحو الانقسامات والحصار ومشاكل غزة وضغوط السلطة الفلسطينية علي سكان القطاع.
هكذا تاهت القضية الأم، وأضحت أزمة انسانية تستدر عطف المجتمع الدولي. ودخلت علي الخط قوي مختلفة، مثل قطر وتركيا، من باب تصفية الحسابات مع بعض الدول العربية. وجنت إسرائيل ثمار هذه التصرفات الحمقاء.
إذا كان ترامب أخذ كل هذا الوقت في التفكير وتهيئة الظروف ولم يحصل علي ما يريده، فمن المرجح أن يطرح مبادرته بطريقة فضفاضة لتكون مجرد عملية سياسية لإبراء الذمة. يجد فيها كل طرف مايريده. لذلك من الضروري عدم رفضها من حيث المبدأ قبل التعرف علي تفاصيلها. في هذه الحالة من المهم أن يأتي الرفض من خلال الرد علي البنود التي تضر بالمصالح الفلسطينية، علي طريقة شارون.
نقلًا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع