لدى الكثير من العاملين فى حقل الإعلام قناعات بأن أى وسيلة حديثة لن تلغى الوسائل السابقة عليها، بدليل أن الصحف لم تجعل صناعة الكتب تختفى أو تتراجع، ربما العكس، واختراع الراديو لم ينه عصر الصحف، والتليفزيون والفضائيات والمدونات والمواقع الإلكترونية لم تقض على كل ما سبق.
التقدم المذهل فى مواقع التواصل الاجتماعى بكل أنواعها حاليا، جعل البعض يعيدون النظر فى فكرة البقاء دائما، وتراودهم شكوك فيما سبق من قناعات، وأن عصر الجريدة الورقية دخل مرحلة الأفول، عقب اندثار عديد من الصحف فى مصر والعالم، وتحول أخرى إلى مواقع إلكترونية على شبكة الإنترنت، وفرض رسوم مادية للاطلاع عليها.
الكثير من الصحف النشيطة تعاملت مع الموقف باعتباره قدرا لا مفر من التعامل معه بإيجابية، ولم تستسلم لليأس الذى صاحب آخرين وجعلهم عاجزين عن التفكير والتطوير والابتكار للحفاظ على مهنة يظن البعض أنها على وشك الانقراض.
الفريق الأول تصرف بشكل عملى وبدأ يعيد قراءة المسلمات الكثيرة التى جعلت يقينه لا يتزعزع حيال أهمية الصحافة، ويشعر بالقلق ويفكر فى المعانى التى ينطوى عليها انصراف قطاع كبير من الجمهور، لأنه لم يعد راغبا فى القراءة والصحيفة بين يديه، بل كل فرد بات يريد الاطلاع عليها سريعا من خلال الجهاز الخاص به، والذى قد لا يتجاوز حجم كف اليد.
لذلك جرت عملية تطوير واسعة فى المحتوي، أثبتت نجاحا لافتا عند عدد كبير من الصحف، التى لم تتخلف تكنولوجيا، وراعت المتطلبات الجديدة وتكيفت معها وقدمت ما يساعد فى التغلب على معوقاتها، ولم يتم تجاهل الواقع وتعقيداته الكثيرة، وبالفعل جرى تجاوز بعضها، ومن الممكن استكمال المسيرة بمزيد من التطوير النوعي.
الفريق الثانى بقى فى مكانه ولم يعبأ بما يدور من حوله. تظاهر بأنه لا يكترث بمصيره بكل ما يحمله من غموض. كل ما يشغله التفكير فى حلول نمطية، مثل زيادة أسعار الصحف بنسب متفاوتة، ولم يفكر جيدا فى النهوض بالمحتوى الذى يجذب القارئ ويحقق رغباته فى تقديم مادة عميقة، ويحافظ على السمعة التى اكتسبتها الصحافة منذ زمن طويل.
المشكلة أن التحديات جاءت فى وقت تعانى فيه معظم الصحف المصرية حالة ترد ظاهرة فى الكفاءات المنوط بها التطوير، ما جعل المأزق مضاعفا والمصير قاتما. الأمر الذى أزعج الحريصين على المهنة، لكنهم وقفوا عاجزين عن التأثير.
إذا سلمنا بأن عملية المنافسة على الخبر تراجعت لأسباب تتعلق بالتقدم التكنولوجى الذى قلص حجم الانفرادات الصحفية، فإن الموقف يفرض البحث عن وسائل بديلة لهذه الخسارة. كما أن صعوبة الحصول على المعلومات التى تسمح لأى محرر شاطر بالوصول إلى نتائج معينة فى مجال تخصصه، يمثل خسارة أخرى فى ظل التضييق الحاصل على حرية تداول المعلومات. وتفضى هذه الآفات لمزيد من المطبات.
معظم القائمين على الصحف الكبيرة فى العالم، اجتهدوا لدخول المنافسة وتقديم التحليل الرصين والتقرير العميق. مانشيتات الصحف تحولت إلى وجهات نظر وليس لنشر الأخبار القديمة، وتتضمن رؤى مبتكرة لزاوية معينة لحدث طازج. يغوص المحرر- المحررة فيما وراء الأخبار التى وقعت، فى وقت لا يزال البعض يتعامل معها كأنها حديثة.
إعادة إنتاج الأخبار بطريقة عقيمة أحد العيوب الخطيرة التى أدت إلى تجاهل البعض عمدا الإشارة لتوقيتها للتغطية على تقاعسهم، دون اهتمام بأن أهم الدروس التى يعلمها الأساتذة فى كليات الإعلام الإجابة عن سؤال متي، وبقية أخواتها: من وماذا وأين وكيف ولماذا؟
خبير فى الإعلام الجديد، على دراية بتقنياته الكبيرة، ويعمل فى مدينة دبى للإعلام بالإمارات، أكد أنه مع بداية العام المقبل سوف تحدث قفزة فى هذا الفضاء، بعد تزايد سرعات الإنترنت لما هو يتخطى الـ 4G المعمول بها فى مصر، وما لم يتسلح العاملون بكل ما يلزم من تكنولوجيا ستواجه مؤسساتهم مصيرا مجهولا.
أوضح أن الكثير من الصحفيين قد يجدون أنفسهم خارج سوق العمل، ليس لأن المهنة ستنقرض، لكن لأنهم دون المستوى المطلوب، لافتا إلى أن التطور السريع المقبل لن تقوم له قائمة إلا على أكتاف صحفيين أكفاء وموهوبين، يحسنون التعامل مع الإعلام بكل ما ينطوى عليه من مضمون جيد وشكل جذاب ورؤية عميقة.
شدد الرجل على أن المستقبل من الممكن أن يكون واعدا للمجتهدين، وذهب إلى عكس ما يتصور البعض من أن الصحافة الورقية سوف تتلاشى ملامحها قريبا، وربما تصبح أكثر انتعاشا، إذا قام المسئولون عليها بالتفكير جيدا فى تطوير أدوات صحفهم وهيئاتهم، وليس الاستسلام للواقع القاتم.
الطاقات الخلاقة وطرق توظيف العاملين، وفقا لمؤهلاتهم، يمكن أن تصنع صحافة جادة وبديعة، أما من يمشون فى الطرقات، أو يقبضون على المناصب فقط ولا يعيرون اهتماما بما يحدث من تطورات، سوف يذهبون مع مناصبهم. ويدخلون التاريخ من باب أن عجزهم أو تقاعسهم أو عقم فكرهم أسهم فى التأثير سلبيا على مهنة لعبت دورا مهما فى التوعية والتنوير على مدار التاريخ.
المسألة ليست ابتكارا من هذا الخبير، فكل من نلتقى بهم وعلى دراية بفنون ودهاليز الإعلام، يؤكدون ضرورة توافر روشتة للتطوير ومجارات العصر وسماته، وهى ليست لوغارتيمات من الصعوبة فهمها، لأن الصحافة مثل أى مهنة أخرى عليها مواكبة الواقع بكل ما يحمله من تشابكات فنية ومهنية وسياسية.
من يتصورون أنهم يخترعون العجلة بعد تصنيعها منذ عقود طويلة، لن يتمكنوا من تقديم إعلام على مستوى المسئولية الوطنية، يستطيع أن يتماشى مع طبيعة المرحلة وطقوسها. على هؤلاء خلع عباءاتهم القديمة، وإدراك أن هناك تحولات كبيرة حدثت فى فنون الصحافة، ليس من المستحيل التعامل معها.
علاوة على أن استيعاب المفردات والإلمام بالأصول وفهم المتغيرات التى أحاطت بها والقدرة العالية للتكيف مع ما طرأ عليها، سوف تقود حتما إلى الانسجام مع الأدبيات الجديدة التى غزت شريحة كبيرة من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وبالتالى استعادة القراء الذين انصرفوا، بل وجذب آخرين لم يكن يقبلون عليها. هى روشتة تحتاج فقط لإخلاص النيات وحُسن تدبير الأمور.
نقلًا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع