الاهتمام الكثيف الذي توليه مصر بالقارة الإفريقية يمثل تطورا حيويا، يصب في مصلحة تعظيم المصالح، عقب فترة طويلة من التجاهل تسببت تداعياتها في خسائر باهظة. ومن الواضح أن النشاط الملحوظ يتجاوز حدود رئاسة القاهرة للدورة المقبلة للاتحاد الإفريقي، وتصاحبه رؤية إستراتيجية تعيد تصحيح أخطاء الماضي، وتضعنا في مقدمة الدول القريبة من عقول وقلوب القارة الحميمة.
إفريقيا لها وجوه عديدة يمكن التعامل معها، سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية وثقافية ورياضية وغيرها، ولمصر إبداعات جيدة في هذه الفضاءات وتستطيع من خلالها أن يكون لها دور مؤثر، يعيد لها البريق السابق ويتجاوزه إلى ما هو أفضل، لأنه يتسلح أيضا بكثير من مقومات الحاضر وتطلعات وآفاق المستقبل.
الدول التي أصبح لها باع في ربوع القارة ونجحت في تحقيق اختراقات إيجابية، لديها جملة من العناصر تساعدها على التفوق وتجاوز المطبات التي يضعها آخرون في طريقها، ومعها قدرة فائقة على التمويل وتوفير المساعدات في المجالات التنموية.
الشق السياسي لم يعد هدفا في تحركات دول كثيرة، وبات نتيجة طبيعية لجهود يتم بذلها على مستويات أخرى، فلا توجد دولة تقبل أن تكون معبرا لتحقيق مصالح سياسية وكفى لجهات أخرى، ما لم تستفد منها وتجد فيها ملاذا آمنا للمنافع والمصالح، ولأن العلاقات أشد تعقيدا فمن الضروري امتلاك الأدوات التي توفر البيئة المواتية لمزيد من تقبل الحضور المصري في وجهه الحديث.
الرصيد التاريخي من دون أن تصاحبه تحركات عملية لن يفضي إلى تحقيق مكاسب واعدة، لكن البناء عليه من خلال طروحات جديدة تتواءم مع الواقع سوف يكون مقدمة مفيدة، وله تأثيرات متباينة تظهر في شكل روابط يصعب تفكيكها مستقبلا.
الشواهد التي تؤكد الوجود المصري كثيرة، وإذا أُحسن توظيفها ستتولد عنها روافد تعزز ما تريده القيادة السياسية من تفوق في الدور الإقليمي، لأن الكثير من الشعوب الإفريقية تطورت بصورة لافتة، وتنفتح على العالم بشكل مذهل، ولن تقبل منح خدمات أو تقديم تنازلات مجانية.
القدرة على ترتيب الأولويات واحدة من الأدوات الرئيسية التي يمكن أن تساعد على توسيع نطاق العلاقات في ربوع القارة الإفريقية، وإذا كانت مصر لا تملك التمويلات الكافية للمشروعات العملاقة الصاعدة في دول كثيرة، فإن التخطيط والتنظيم والرؤية العلمية الواضحة من أهم الوسائل التي يمكن من ورائها جني أرباح عديدة.
هناك تكالب على القارة يتفوق على الحقب الاستعمارية السابقة، والتي كانت محصورة في دول كبيرة ومتنافسة، اليوم أخذت المسألة أبعادا مختلفة، فالسباق يضم قوى مختلفة، كبيرة وصغيرة، غنية وفقيرة، من الشمال والجنوب، والشرق والغرب، لأن الصراع على مناطق النفوذ تغيرت ملامحه ومحدداته، ولم يعد مقصورا على الجوانب المادية المباشرة.
إفريقيا لا تزال بكرا في نظر دول كثيرة، وتملك حزمة كبيرة من الثروات التي لم يتم اكتشافها، وتطل على بحار ومحيطات ومضايق، وبها نهر النيل العظيم، مما يمنحها مزايا تجارية وعسكرية، وتحولت إلى محطة رئيسية في الحرب على الإرهاب والهجرة غير المشروعة.
وكلها من العوامل التي تؤكد وجود أجواء جاذبة لعدم الابتعاد عنها، لأن هذه المكونات متداخلة وتحتاج في النهاية إلى حزمة من التربيطات المشتركة، فلا توجد دولة تستطيع أن تقضي على أي ظاهرة سلبية بمفردها، لكن يمكنها أن تستثمرها للتنغيص على آخرين.
الخلاف الذي تكشفت معالمه بين فرنسا وإيطاليا أخيرا له جذور عميقة في أوروبا، وأصبحت له امتدادات في وسط إفريقيا، بما يتجاوز الحدود الظاهرة والعنيفة في الأزمة الليبية، فقد أخذ طريقا للمناكفة في بعض الدول مثل تشاد، ولن تكون هذه بعيدة عن بعض التجاذبات، التي سوف تظهر ارتداداتها على مجموعة من القضايا المركزية.
تصفية الحسابات باتت ممتدة وبعيدة، وتتخطى الحدود القريبة، فكل دولة تحاول أن يكون لها مكان واضح تحت الشمس في العالم، وتسعى بكل ما تملكه من أفكار وتصرفات إلى تكريس وجودها، ولأن إفريقيا في نظر كثيرين تضم مؤهلات وكفاءات متعددة وفي مجالات متباينة، تحولت إلى محطة رئيسية في التوجهات الدولية والإقليمية.
التدخلات التي جرت من جانب بعض الدول لحل أزمات وصراعات مستعصية في إفريقيا، من الاستعدادات التي توحي بالرغبة في إيجاد نفوذ لها، ومن يمعن النظر في خريطة النزاعات يجد حرصا من قبل البعض على تقديم مقاربات للتسوية السياسية، تتبناها دول من خارج المنطقة، لكنها تتطلع ليكون لها موطئ قدم تحسبا لتغيرات كبيرة متوقع حدوثها الفترة المقبلة، مع تنامي الاهتمام بالقارة.
فكرة من الداخل أو الخارج، ليست حاكمة الآن في ممارسات الدول، العنصر الحاكم هو مدى النجاح أو الفشل في توظيف المعطيات الراهنة، وتبني خطط تفضي إلى زيادة شبكة العلاقات، التي حتما سوف تنعكس في المستقبل في شكل فوائد اقتصادية وسياسية، والحد من مؤهلات القوى المناوئة، فهناك دول تقترب من القارة الإفريقية لكسب النقاط في مواجهة خصومها، أو على الأقل منعهم من التجرؤ عليها في ملفات وقضايا غاية في الأهمية. ليس المقصود تبني سياسات شريرة وعدوانية أو التوغل من أجل تحجيم الآخرين فقط، بل محاولة طرح المسألة بأبعادها المختلفة، لأن هناك من يعتقدون عدم جدوى البحث عن تأمين المصالح في الفضاء الإقليمي البعيد، ويصرون على حصرها في ما يخص الأمن القومي بمعناه المباشر، ويتجاهلون أن بعض التطورات عصفت بكثير من المفاهيم التقليدية.
الوجه الآخر لإفريقيا قد يكون مخيفا للبعض، وربما يكون جاذبا لآخرين، وفي الحالتين نحن أمام متغيرات تسير بوتيرة متسارعة تحتاج إلى تصورات منفتحة تدرك أهمية ما يعتمل في العالم من أفكار مبتكرة، ولا تكون مسكونة بهواجس وعقد تاريخية معينة، تكبح القدرة على مسايرة الأحداث المتلاحقة.
التحركات التي تقوم بها مصر على كثير من المستويات تؤكد العزم على استعادة مكانتها في القارة الإفريقية، والنجاحات التي تحققت على الأصعدة السياسية سوف تظهر معالمها قريبا، عندما تستعيد القوة الناعمة المصرية عافيتها تماما، وتكمل التطورات التي بدأتها القوة الصلبة.
نقلًا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع