كل الدول العربية تلعب فيها حسابات القبيلة والأعراق والمذاهب أدوارا مهمة وبدرجات مختلفة، لكن لكل منها خصوصيته، فما يصلح تطبيقه فى لبنان قد لا يصلح فى العراق، وما يصلح للعراق لن يجدى نفعا فى سوريا أو اليمن. ومعظم التصورات التى يمكن التطرق لها فى إطار المحاصصة الطائفية لن تصلح لحل الأزمة الليبية.
المؤتمر الوطنى الجامع، الذى يحاول غسان سلامة مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، أن يجعله يلتئم مع بداية العام المقبل يمر بمرحلة مخاض عسيرة، وتلفه شكوك من جهات كثيرة، تجعل الوصول إليه كمحطة عملية غاية فى الصعوبة، فالأشواك المنثورة فى طريقه يحتاج من يريد تخطيها إلى معجزة سياسية.
لم يضرب سلامة موعدا محددا للمؤتمر، لكنه أشار إلى فترة زمنية مطاطة، قد تجره إلى مصير الانتخابات التى وعد بها قبل نهاية العام الحالي، ثم ضرب موعدا جديدا لها، فى ربيع العام المقبل، دون أن تكون لديه الأدوات اللازمة لتنفيذ وعده فى المرة الأولى أو الثانية، فعدد كبير من المحددات تتحكم فيها دوائر أخري، ترى أن هذه الإجراءات تخدم تيارات مؤدجلة لا تعنيها وحدة ليبيا بقدر ما يعنيها الحصول على جزء من الكعكة. المواعيد المضروبة فى هذا النوع من الأزمات ليست مقدسة بالطبع، لكن تضاربها يعكس مدى الفهم للبيئة التى يعمل فيها مبعوث الأمم المتحدة، وقدرته على استيعاب التطورات والمفاجآت التى يمكن أن تلحق بالأزمة ما يفرض عليها معطيات تجعلها تغير مساراتها فى أى لحظة. اعتراف مجلس النواب الليبى باتفاق الصخيرات لأول مرة فى تعديل دستورى تم الشهر الماضي، يعنى أن الاتفاق قد يكون ساريا لمدة عامين من الآن، لأن الصخيرات نص على العمل به عام ـ (من لحظة الاعتراف به) وليس من لحظة توقيعه ـ (ديسمبر 2015) قابلة للتجديد لعام آخر، بمعنى أن المجلس الرئاسى ومجلس الدولة اللذين انبثقا عن الاتفاق واتخذا جملة من القرارات، كانا حتى وقت قريب من الأجسام السياسية غير الشرعية فى نظر البرلمان. القانون رقم 5 من مجلس النواب تضمن إشارة إلى امكانية اختيار شخصية لمقعد الرئيس ويمكن الاستفتاء عليها، وهى علامة أخرى تؤكد أن المبعوث الأممى لم يهضم جيدا الأوضاع فى ليبيا ودهاليزها، ويريد أن يدير أزمتها بالطريقة التى يراها من دون اعتداد بالأجواء السياسية والمكونات المجتمعية، فضلا عن الجهة القانونية المخولة بحق التشريع والحيل التى يمكن اللجوء إليها. الدكتور غسان سلامة لم يفهم بعد التفاعلات الجارية فى ليبيا، ويصر على عدم الخروج من النموذج اللبنانى الطائفى الذى عايشه فترة طويلة، ولو اجتهد قليلا وقرأ تاريخ الدولة الليبية، وأمعن فى المحركات الرئيسية أيام فترة الاستعمار الإيطالي، والدور الذى لعبته المدن والقبائل، لتمكن من تكوين رؤية أوضح لآليات إدارة الأمور فى الأزمة الليبية.
التعامل مع المؤتمر الجامع يبدو فرصة غسان سلامة الأخيرة لتحقيق قفزة سياسية وتصحيح أخطائه السابقة، فقد أخفق فى إثبات جديته فى تعديل لجنتى الحوار- مجلس الدولة ومجلس النواب- فى تونس خلال شهر سبتمبر من العام الماضي، ولم يستمر فى تكملة مشواره، وانحرف إلى الذهاب نحو مشروعه الخاص بالمؤتمر الجامع، وبعد مواجهة حزمة من العقبات انتقل إلى مربع الانتخابات، وعقب فشل الوصول إليها، عاد مجددا إلى فكرة المؤتمر الجامع.
إذا اعتبرنا أن المؤتمر ورقة رابحة، من وجهة نظر المبعوث الأممي، الحكمة تقتضى مراعاة التعقيدات التى تحيط به وعدم الرهان عليه كثيرا، وإعادة النظر فى بعض التصورات السياسية، لأن كل المعالم التى تحيط بالمؤتمر المنتظر تمضى فى طريق مناهض له.
التحولات الموازية تسير بوتيرة سريعة، وفى اتجاه قد لا يفيد رؤية سلامة أو يسعفه فى تحقيق طموحاته، فمجلس النواب أقر بعض القوانين المعطلة، وتوافق رئيسه عقيلة صالح مع خالد المشرى رئيس مجلس الدولة، لاختيار مجلس رئاسى جديد من رئيس ونائبين واختيار رئيس مستقل للحكومة، وتفعيل هذا التوافق أو الخلاف حول بعض تفاصيله يفرمل الخريطة التى يسير على هديها مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا، ويجعل الكثير منها خارج الزمن، لأن وقتها ستكون منفصلة عن الواقع، الذى تصيغ جزءا كبيرا من قسماته جهات، يعتقد سلامة أن له سطوة عليها.
التوقيت الحالى يعزز فرص فشل المؤتمر الجامع، ولنا أن نتخيل حجم النتائج التى سوف تتمخض عن ذلك، يضاف إليها ما ينجم عن الإخفاق فى وضع حد للتدهور الحاصل فى الجنوب، وعدم القدرة على حل مشكلة الكتائب المسلحة فى طرابلس، وارتباك القوى الدولية التى تريد فرض وصايتها على ليبيا، لكنها فتحت بابا للصراع حاولت بعض الجهات الإقليمية إغلاقه مبكرا، من خلال العمل على وجود جيش وطني.
خطة توحيد المؤسسة العسكرية، باعتبارها الجهة الوحيدة القادرة على الإمساك بزمام الأمور، يحاول البعض السيطرة عليها أو تخريبها، وسرقة الدور الحيوى الذى قامت به مصر، وهؤلاء يعملون لمصلحة أطراف تريد أن تظل الأزمة مفتوحة على الدوام، ما لم يحققوا أهدافهم الغامضة، ولو على حساب الشعب الليبى ودولته الموحدة.
البصمة المصرية لتوحيد هذه المؤسسة العريقة ضمانة لعودة الأمن والاستقرار وتسوية الأزمة على قواعد تراعى المكونات الأساسية، وبموجبها يجرى تجاوز الكثير من المطبات والعراقيل، وإنهاء الظواهر السلبية، ووقف زحف البعض للتحكم فى المفاصل السياسية والأمنية والاقتصادية.
المساعى التى تحاول بعض القوى تطبيقها لن يكتب لها النجاح، وربما تعيد الأوضاع إلى نقطة الصفر، وتتضاعف الملامح السلبية فى المشهد الليبي، لأن توحيد المؤسسة العسكرية أكبر من مجرد توقيع اتفاق فى قاعة أو عاصمة، وأبعد من لقطة تسجلها كاميرات التصوير بين المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني، وفايز السراج رئيس حكومة الوفاق، لأن الأهم من الاتفاق كيفية تنفيذه على الأرض، فالتوقيع هو بداية الحل وليس نهاية المشكلة. المسألة مرتبطة بالعلاقات التاريخية المتشابكة بين مصر وليبيا، فالقاهرة أسهمت بقوة فى تكوين أول جيش ليبى عام 1940، ما يفرض على بعض الجهات المغامرة مراعاة هذه النوعية من العلاقات الوطيدة، وتجنب الزج بأنفسهم فى قضايا تكشف أوزانهم النسبية وأحجامهم الحقيقية، والتى تدركها الغالبية العظمى من أبناء الشعب الليبى الذين لن تحرفهم محاصصة المؤتمر الجامع عن وحدة مؤسساتهم الوطنية، ولن تثنيهم عن تمسكهم بالدور المصري.
نقلًا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع