الثروة التى تملكها ليبيا واحدة من العوامل التى أدت إلى تفاقم أزمتها الحالية، وأسهمت فى تعقيد جهود التسوية السياسية، وتعطيلها بحيل وألاعيب مختلفة، وساعدت بعض القوى الدولية المتصارعة فى السعى للاستحواذ على النفط والغاز الكامنين فى الأراضى الليبية، دون اهتمام بعواقب ذلك على الأجيال القادمة، أو اهتمام بالشعب الطامح للسيطرة على مقدرات بلده.
الخطورة أن هناك شريحة لم تكتف بالتآمر والعمل لحساب أجندات خارجية، بل سعت إلى الهيمنة على مفاصل الاقتصاد، ومحاولة امتلاك ورقته المهمة، والتى تستطيع من خلالها الاحتفاظ بنفوذها، وتحقيق أغراضها الخفية، إذا فشلت أدواتها الأمنية والسياسية، فكل الأطراف بحاجة للقبض على مصادر الاقتصاد الرئيسية، لأنه المفتاح السحرى لتجاوز بعض التحديات، وشراء الولاءات.
التيار الإسلامي، انتبه مبكرا لأهمية الثروة بجوار السلطة، ونجح فى التسلل للسيطرة عليها عبر أذرعه الأمنية، ومساعدة فاضحة من بعض القوى السياسية، وهى من أهم الوسائل التى تملكها جماعة الإخوان للمنافسة على الحكم، بعد أن بدأت تتسرب من بين أياديها فكرة الملتقى الجامع، الذى جرى التخطيط ليكون بوابتها الخلفية للقفز على السلطة. كما أفضى تقدم الجيش الوطنى الليبى فى الجنوب، عقب السيطرة على الشرق، وتعرض الميليشيات فى طرابلس لضربات وانتكاسات متتالية، إلى انعدام الوزن فى صفوف الجماعة، ولم تفق من ذلك حتى واتتها ضربة تتعلق بفتح المزيد من القضايا الجنائية بشأن التجاوزات التى وقعت فى ملفات اقتصادية متعددة، ليكون الشعب شاهدا على حجم الجرائم التى ارتكبت على يد من سوقوا أنفسهم كحراس على ثروته، ومن تصدروا المشهد السياسى بذريعة أنهم يعبرون عن تطلعات المواطنين.
التحالف بين جبهات أمنية وسياسية أسهم فى وضع يد التيار الإسلامى على جانب معتبر من الثروة الليبية، وبدأت رائحة الفساد تتسع وتزكم الأنوف، فقد جرى تعيين مصطفى المانع، القيادى بجماعة الإخوان، عضوا فى مجلس إدارة المؤسسة الليبية للاستثمار، وهى متوافقة مع خطوة وضع على العيساوى وزيرا للاقتصاد، ومحسوب على الإخوان، ومتهم بقتل اللواء عبدالفتاح يونس، لتعزيز نفوذ المؤدلجين.
الخطورة أن مؤسسة الاستثمار، التى تأسست عام 2006، عبارة عن صندوق سيادى للثروة الليبية، يدير نحو 70 مليار دولار، من أموال قطاع النفط فى البلاد، عبر استثمار 550 شركة فى تخصصات مختلفة تعمل حول العالم، ويحيط بها الفساد، وتم إيقاف رئيسها على حسن، للتحقيق معه فى شبهات فساد، وبحث مدى علاقته بالإفراج عن أموال ليبية مجمدة فى بلجيكا، قيل أنها ذهبت فى جيوب أشخاص ومؤسسات تعمل ضد المصالح الوطنية للدولة الليبية. ناهيك عن التوظيف السياسى لنحو 30 مليار دولار من أموال الشعب الليبى قابعة فى بنوك أنقرة واسطنبول، وتلعب القيادات الإسلامية دورا فى عدم المساس بها، ومحاولة فتح آفاق اقتصادية واعدة أمام الاستثمار التركى فى الأراضى الليبية، وربما تكون هذه العلاقة من الألغاز التى تفك شفرة سفن الأسلحة التركية التى تتدفق على ليبيا من وقت لآخر.
التطورات الحاصلة فى مؤسسة الاستثمار، تأتى بالتوازى مع أزمات تلاحق المصرف المركزى الليبي، ويرأسه الصديق الكبير، المتهم بمؤازرة جماعة الإخوان، ومنح قياداتها وكوادرها مزايا مادية كبيرة، تضاف إلى إغداقه على الميليشيات من أموال الشعب الليبي، للدرجة التى جعلته يدفع مصاريف شحنات أسلحة تركية من الحصة المخصصة لوزارة الداخلية، وهو ما استخدم كدليل جديد على التخريب الاقتصادى والسياسى والأمني، وأعادت الفضائح الأخيرة المطالبة بإقالته، بما أحرج من يتسترون عليه.
القنابل السياسية التى حملتها تجاوزات المصرف المركزى لن تتوقف الفترة المقبلة، وسوف تتصاعد الأدخنة حول بعض القيادات المتورطة فى الدفع نحو صرف أموال قذرة لكسب رضاء الميليشيات، وقد تجرف هذه القنابل فى طريقها من تخيلوا أنهم نجحوا فى الهيمنة على الاقتصاد الليبي، وأصبحوا بعيدين عن المحاسبة القانونية.
التجاذبات التى كانت تدور رحاها فى الخفاء بين الصديق الكبير وبعض المسئولين، تكشفت الكثير من معالمها وأخذت تظهر للعلن، ولم تعد حكرا على النخبة المنخرطة فى تفاصيل الأزمة، واتجهت العيون نحو رئيس المصرف الليبي، لأنه فى مقدمة الشخصيات المعرقلة للتسوية.
الفواتير التى ذهبت إلى جيوب جهات متعددة، عبر المصرف المركزى ومؤسسة الاستثمار، حان أوان تسديدها للدولة، التى يؤدى زيادة نطاق التعافى فى مؤسساتها الوطنية إلى التوسع فى إمعان سيف المحاسبة لمن نهبوا الأموال أو استغلوا نفوذهم لأهداف شخصية وسياسية.
الصديق الكبير تحوم حوله اتهامات متباينة وجهتها شخصيات كبيرة لسوء تصرفاته، وبات محل غضب واستنكار من دوائر كثيرة، بصورة تضغط معنويا على القوى الداعمة له، ومكنته من الاحتفاظ بمنصبه، وباتت السلطة التنفيذية عاجزة تماما عن ممارسة صلاحياتها لتنحيته، وضبط الدفة فى التوزيع غير العادل للثروة، الذى ينتهجه منذ فترة طويلة، بما أدى إلى تصاعد حدة المشكلات المجتمعية، وتعطيل خطة الترتيبات الأمنية التى يتبناها وزير الداخلية فتحى باشأغا، لحساب عدم التخلى عن الكتائب المسلحة.السيطرة على غالبية حقول النفط من قبل الجيش الوطني، سوف تفضى إلى تعديل الدفة، وتدفع نحو التخلص ممن تربحوا من فوائض الأموال الليبية، وعملوا على نشر الفوضى وتعميم الانفلات للهروب من المساءلة القانونية. العلاقة بين المصرف المركزى والميليشيات فى العاصمة، من العراقيل التى تقف حائلا أمام نجاح قوة حماية طرابلس، وفصم هذه العلاقة أحد مداخل التخلص من العصابات المسلحة، والأمر يحتاج إلى إرادة سياسية تتفهم التكاليف الناجمة عن إقالة شخص مثل الصديق الكبير، لأن استمراره يضاعف من صعوبة تنظيف المصرف المركزى من الداخل، والتخلص من العناصر التى درجت على نهب أموال الشعب والعبث بالاقتصاد وتغذية الصراعات البينية.
التقدم التدريجى على المستوى العسكري، من الأدوات المهمة لتقليم أظافر القوى التى أدمنت السطو على المال العام، وكلما أحكم الجيش قبضته على منطقة حيوية تراجع نفوذ من نهبوا الاقتصاد ووضعوا الأمن رهينة لمراميهم البغيضة.
نقلًا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع