بقلم : أحمد الجمال
كتلميذ كسول، تراكمت على العبد لله موضوعات الكتابة التى كنت أؤجلها لحين ميسرة، فى الوقت، وفى مساحة النشر، وفى تدافع الأحداث اليومية.
وما إن عزمت على البدء فى الوفاء بما أجلته دهمنى عيد الأم الذى تحول إلى ملف آثرت إدارة تحرير «المصرى اليوم» أن تومئ إلى من يكتبون على صفحاتها بأن يساهموا فيه، ولم أكن لتفوتنى فرصة المشاكسة والمناوشة، فهاتفت الكاتب الصحفى المتميز الأستاذ محمد السيد صالح، رئيس تحرير المصرى اليوم، مستفسرا عن مصير الكاتب الذى لن يشارك فى تنفيذ درس الإنشاء المقرر اليوم، وانعطف الحوار إلى وجاهة فكرة وأسلوب الملفات الصحفية التى تخطط لها الصحف، كلما احتدم الحوار والخلاف حول قضية من القضايا الفكرية أو الثقافية أو الاجتماعية وأحيانا السياسية.
وكان الرجل كريما كعادته؛ إذ تقبل الحوار، وكان أن امتثلت بينى وبين نفسى للدعوة، وقررت أن أؤجل الكتابة فيما تراكم عندى من موضوعات، حتى صرت ذلك التلميذ الكسول الذى يؤجل واجب اليوم إلى الغد.. وربما أبدأ الأسبوع المقبل فى الكتابة عن الذكريات التى سجلها صديقى البروفسور أستاذ القلب المرموق شارل بشرى بعنوان «الخروج من قندهار»، وأكتب أيضًا عن كتاب أهدته لى الأستاذة الدكتورة آمال حلمى سلام، وهو عن علاقة أبيها الأستاذ الصحفى الكبير حلمى سلام- رحمه الله- بثوار يوليو، ثم عن كتاب هو رسالة جامعية متميزة عن السادات ومعاهدة كامب ديفيد للباحثة السيدة فاتن عوض، التى تكرمت بإهدائه لى، وفيه- وبمنهج علمى يعتمد على الوثائق والشهادات المعاصرة- تقدم تحليلًا للمعاهدة ورصدًا لمقدماتها وخلفياتها ومسارها وخباياها الرهيبة.. ثم كيف لى أن أتجاوز عما كتبه الصديق الدكتور عبدالمنعم سعيد فى مقاله بالمصرى اليوم بعنوان «الجغرافيا الاقتصادية لمصر» ونشر يوم 12 /3 /2018، وفيه أتى على ذكر اسمى مع الأستاذ عبدالله السناوى!
كل ذلك أجلته لأكتب عن الأم، وأبدأ بما تعودت أن أستفتح به، وهو الضفيرة المتفردة التى خص بها المصريون أنفسهم دون بقية البشرية.. ضفيرة الأمهات الطاهرات الثلاث.. أم حورس.. وأم النور.. وأم هاشم.. وكلهن عند المصريين طاهرات، رغم أن الثالثة، السيدة زينب بنت الإمام على وفاطمة الزهراء، تزوجت وأنجبت، وبالتالى فإن الطهر عند المصريين لا يعنى البتولية والعذرية فقط، وإنما يتجاوزهما إلى التضحية والفداء والصمود فى مواجهة الشر والظلم.
لقد تمكن إله الشر «ست» من أن يفتك بإله الخير والنماء «أوزيريس» ومزق جثمانه قطعًا بعدد أفرع النيل، وكان أن انتفضت إيزيس وسعت لجمع أشلاء زوجها، وأعادت لحمتها، وتمددت إلى جوارها، فحملت حملا معنويا فى حورس الذى نذرته لمقاومة الشر، وفاضت دموعها، فكان فيضان النيل من تلك الدموع!
وتمكن اليهود من تحريض الرومان على الفتك بالمخلّص يسوع، له المجد، بعد أن استطاع أن يواجه اليهود، ويفحمهم بكشف زيفهم واتخاذهم من بيت الرب مغارة لصوص، وعندما انتهى أسبوع الآلام بمشهد الصلب كانت سيدتنا العذراء مريم التى اصطفاها الله، وطهرها ثم اصطفاها ثانية على نساء العالمين، تقف بين الجموع، وتبكى صامدة صابرة، وبقيت إلى أن انتهى المشهد لتتجه مع المجدلية للمكان الذى أودعوا فيه جسد السيد، له المجد، وكان ما كان، مما هو مذكور فى بعض الأناجيل.
أما أم هاشم، السيدة زينب، بنت الإمام على، فقد تمكن الشر والباطل الأمويان من الفتك بسيدنا الحسين، وكانت المذبحة الوحشية الرهيبة لآل البيت، وربما لا يعرف كثيرون أن من بين شهداء المذبحة كان الشاب عون بن عبدالله بن جعفر بن أبى طالب وابن السيدة زينب، التى فجعت فى أخيها سيد الشهداء وابنها وبقية آل البيت، ويذكر أن عوناً ابنها الشهيد ارتجز- وهو فى ساحة القتال- أبياتاً يقول فيها:
إن تنكرونى فأنا ابن جعفر
شهيد صدق فى الجنان أزهر
يطير فيها بجناح أخضر
كفى بهذا شرفاً فى المحشر
وصمدت زينب- التى لقبها المصريون بالطاهرة- لأنها صمدت، وصبرت، وواجهت، واستمرت فى المواجهة حتى بعد أن تم أسرها وبقية من تبقى من آل البيت إلى مجلس يزيد بن معاوية.. وبقية المأساة معروفة.
هكذا أسس المصريون مفهوما مغايرا للأمومة، إذ جعلوا صميم مضمونها هو قوة الأم وصمودها وقدرتها على تحمل الآلام وعلى الاستمرار بالحياة. ولذلك بقوا حتى الآن يتشفعون بالعدرا أم النور وبالطاهرة أم هاشم.. وبقيت الأم المصرية رمزًا عمليا للمضمون نفسه، ولو أن المساحة كانت تتسع لمزيد من الحديث لاستطردت فى سيرة أمهات عشت معهن وبينهن فى القرية وفى الحارة.. وأقسم برب العزة إنهن كن وبقين يمارسن الطهر بالعمل والشقاء والصبر والتضحية بغير حدود.
نقلًا عن المصري اليوم