بقلم - أحمد الجمال
لعلها الصدفة أن يأتى التحرك الشعبى فى الشتاء، وأن يكون التحرك العسكرى فى الصيف، حيث كانت ثورة 1919 الشعبية الجارفة فى مارس، وبعدها كانت الانتفاضة الشعبية الكبرى فى يناير 1977، ثم كانت الثورة الواسعة فى يناير 2011، بينما كان تحرك جميع الوحدات العسكرية المتمركزة فى القاهرة باتجاه قصر عابدين بقيادة أحمد عرابى فى 9 سبتمبر 1881، ثم كان تحرك الجيش فى يوليو 1952 وكان يوليو 2013 تاريخًا للحسم صنعته القوات المسلحة! وليناير فى الوجدان العام وفى وجدان البعض ـ وأنا منهم ـ مكانة ودلالة، فهو شهر ميلاد السيد المسيح وشهر تعميده، أو الغطاس، وهو شهر تصدى الشرطة المصرية لقوات الاحتلال البريطانى فى الإسماعيلية عندما حاصر الجيش البريطانى بقوة تشمل سبعة آلاف جندى مزودين بالأسلحة، وتدعمهم الدبابات الثقيلة والعربات المصفحة ومدافع الميدان مبنى قسم الشرطة، ومبنى المحافظة فى الإسماعيلية، وتصدى لهم جنود الشرطة الذين لا يزيد عددهم على ثمانمائة فرد فى الثكنات، وثمانين فى المحافظة يحملون بنادق «لى إنفيلد» ضعيفة الأداء، واستمرت مقاومة المصريين ساعتين حتى نفدت آخر طلقة، وسقط من شرطة مصر ستة وخمسون شهيدًا وثمانون جريحًا، وعندما لم يكن من سبيل أمام الأبطال المصريين سوى التفاوض، وضع الضابط مصطفى رفعت ـ رحمة الله عليه ـ شروطًا ووجهها للجنرال ماتيوس قائد قوات الاحتلال، وفيها طلب مصطفى رفعت ألا ينكس علم مصر، وألا يرفع الجنود المصريون أيديهم لأعلى فى أثناء خروجهم، وأن يخرجوا بشكل عسكرى يليق بهم، وأن يتم نقل المصابين، وأن يترك الجنود أسلحتهم داخل المبني، ولا يتم تسليمها لقوات الاحتلال.. ووافق ماتيوس، الذى كان أعلى رتبة من الجنرال إكسهام القائد البريطانى الذى كان يحاصر الشرطة ومبنى المحافظة، وكان مع مصطفى رفعت زميله اليوزباشى «النقيب» عبدالمسيح، الذى قرأ الفاتحة مع الجميع تعبيرًا عن تعهدهم كلهم بالاستمرار فى المقاومة والقتال حتى الموت!
ثم إن يناير هو شهر ميلاد الزعيم الخالد جمال عبدالناصر الذى احتفلنا بمئويته منذ أيام، وهو شهر البدء فى بناء السد العالى أعظم مشروع هندسى فى العالم فى القرن العشرين، وهو شهر الانتفاضة الشعبية الكبرى فى 1977، التى حملت اسم ثورة الخبز، وأطلق عليها السادات انتفاضة الحرامية، وهنا يتداخل عندى العام بالخاص، لأننى كنت ممن وجهت إليهم تهمة التحريض على الأحداث، والدعوة لتغيير النظام وازدراء السيد رئيس الجمهورية ـ آنذاك ـ أنور السادات، وضم قرار الإحالة فى القضية رقم 100 حصر أمن دولة عليا اسمى مع زملاء آخرين، ولأن الجلسات رفعت لأجل غير مسمى فإن حكمًا نهائيًا لم يصدر فى تلك القضية.
فى 17 يناير 1977 كنت والمرحوم البطل المقاتل والمقاوم النزيه كمال الدين رفعت الضابط الحر، وعضو أول خلية فى الضباط الأحرار، وقائد المقاومة فى القناة إبان مفاوضات الجلاء، والمسئول عن عدة وزارات فيما بعد، ثم سفيرًا فى لندن، مدعوين لمحاضرة عن الديمقراطية فى جامعة المنصورة، وعدت للقاهرة مساء، وكانت بدايات التحرك فى الشارع، حيث كانت تجمعات ترشق القطارات بالحجارة فى المنطقة من شبرا الخيمة إلى محطة مصر، وفى ميدان رمسيس كانت الحشود تتكاثف، وعرفت أن منزلى قد تم تفتيشه، وأنه مطلوب القبض عليّ، وقضيت أيامى من 18 يناير إلى أن سلمت نفسى يوم 28 يناير، متنقلًا بين عدة أماكن، وأذكر دورًا نبيلًا وشهمًا للصديق المهندس رفعت بيومي، الذى حرص على أن يصحبنى فى تنقلاتى المتخفية غير مبالٍ بأى مخاطر!.. والمهم أننى حبست احتياطيًا على ذمة تلك القضية من يناير إلى سبتمبر، وكانت الزنازين ـ رغم قسوتها ـ موئلًا لعشرات من المفكرين والمثقفين والشباب والمهمومين بهموم أمتهم من المهنيين والعمال، أقاموا حياة مشتركة محترمة فى الليمانات، ولم يتأخروا لحظة عن النضال المستمر بعد ذلك، وبصورة مختلفة من أجل ما يعتقدون أنه خير مصر!، ولعلى أنتهى قبل الرحيل من كتابة مذكرات المشوار الطويل، الذى كان سجن يناير إحدى محطاته! ولأن الزمار يموت وأصابعه تتحرك، وكأنه يعزف فإنه ما أن جاء التحرك الشعبى الذى أمسى ثورة شاملة واسعة فى 25 يناير حتى وجدت نفسى فى خضم الحشود الهائلة وصار مكتبى الذى لا يفصله عن ميدان التحرير سوى مائتى متر مكانًا للطعام والشراب وقضاء الحاجة والمبيت لكثيرين، ولم أكن هذه المرة وحدى بل كان أولادى الثلاثة مشاركين فى كل وقت، ومنهم أكبرهم، التى ولدت بعد خمسة أيام من وجودى فى سجن الاستئناف، وهو ما رواه بدقة ورشاقة الأستاذ الكبير محمد سلماوى فى مذكراته، وكان رفيقًا فى الزنزانة رقم 27 بالدور الثانى من سجن الاستئناف!
تُرى ما الذى يربط بين يناير 1952 ويناير 1977 ويناير 2011، وما الذى يكمن فى وجدان الجماهير العريضة، ويظل يتراكم حتى يتحول كيفيًا إلى طاقة جبارة، إن لم يتم توظيف نتائجها وتوجيهها وجهة سليمة كانت مدمرة لا تبقى ولا تذر؟! ولعلى لا أتجاوز الإنصاف إذا قلت إن جهدًا علميًا من علماء الاجتماع وعلم النفس الاجتماعى والتاريخ والسياسة لم يبدأ بعد لتأصيل الترابط بين مراحل النضال الوطنى المصري، سواء كان فى الواجهة جيش مصر أو شرطتها أو شعبها، فالكل هنا واحد.
نقلا عن الأهرام القاهرية