توقيت القاهرة المحلي 00:45:46 آخر تحديث
  مصر اليوم -

من قاع الكرار

  مصر اليوم -

من قاع الكرار

بقلم - أحمد الجمال

أستسلم بين حين وآخر للذكريات، فأكتب من عمق أعماق الذاكرة، وكنت أعجب، ومازلت، من الترحيب الذى تلقاه مقالات ذكريات الغيط والقرية والموالد وغيرها، حيث أتلقى عشرات التعليقات، بعضها يتمم ما كتبت.

وفى الشهور الستة الأخيرة أصحو وأنام وذهنى منشغل تمامًا بحتمية استكمال ما بدأته من كتابة المذكرات، ويبدو أن هذا الانشغال يسبب حثًّا قويًا لوظائف النشاط الذهنى الاسترجاعى- إذا جاز الاصطلاح- فبمجرد أن أسرح فى محتويات مرحلة ما تتداعى وقائع كثيرة كانت قابعة فى أعماق الذاكرة، خاصة ما يتصل بالمرحلة ما قبل الكتابة، على غرار ما قبل التاريخ.. لأننى لا أملك تراثًا ذاتيًا مكتوبًا منذ وعيت بما حولى إلى أن احتفظت بأوراق مكتوبة وصور ملتقطة ولوحات مرسومة.

استدعيت، أو استدعتنى، «غرفة الكرار» المظلمة عديمة النوافذ، اللهم إلا فتحة ضيقة ضئيلة «رازونة» فى السقف، تتسلل منها خيوط ضوء ضعيفة متفرقة.. وقد كنا، ومازال أهلى هناك يسمون الغرفة «قاعة»، وينطقونها بالإمالة فتصير «قيعة»، ويحولون القاف جيما قاهرية أو جافا فارسية- حرف كاف له شرطتان- فتصبح «جيعة الكرار».. والكرار فى اللغة العربية هو بيت المؤونة.

وكان هناك صندوق ضخم اسمه أيضًا «الكرار»، مرتفع فوق أرجل أربعة مصنوع من الخشب السميك، وفى سطحه الأعلى فتحة مربعة حوالى نصف متر فى نصف متر، لها باب سميك يرفع لأعلى ليستند- وهو مفتوح- على الحاجز الخشبى «السجاف» شبيه الأرابيسك، الذى يرتفع ويحيط بالأضلع الثلاثة، وكانوا يضعون فيه العيش «الخبز» الذى ينشرونه موزعًا على حصيرة كبيرة، بعد أن يخرج من الفرن حتى يبرد ويجف قليلًا، كى لا يناله العفن الأخضر إذا كدسوه طريًا، وإذا لم يكونوا قد أضافوا بعض الحلبة على دقيقه، لأنهم بالفطرة والخبرة المتراكمة عرفوا أن فى الحلبة ما يحمى الخبز من نمو العفن.

وذات مرة، وكنت «قزعة» لا يتجاوز عمره خمس سنوات، قررت دخول «جيعة الكرار» لأحصل على رغيف، ومعه باذنجانة محدقة، لأننا كنا ومازلنا نسمى المخلل «محدق» ميم مكسورة وحاء مفتوحة ودال مفتوحة مشددة، ومازال الأطباء يحذرون من «الحادق والحراق»، لكى آخذ العيش والمحدق وأجلس على المصطبة المقامة فى الحارة أمام الدار، وما إن شببت وعافرت حتى وصلت للحافة العلوية للصندوق إياه «الكرار».

وعافرت ثانية لأفتح الغطاء العلوى فانفتح، ولأجل أن أستخدم يدى الاثنتين سندت الغطاء برأسى، وفى ثانية اختل الوضع فنزلت برأسى زرع بصل فى الكرار.. يعنى دماغى تحت وساقاى وقدماى فوق والغطاء الخشبى الثقيل قد سقط على قصبتى الساقين، وعبثا أحاول تعديل وضعى حتى كدت أن أختنق، وبدأ البكاء خفيفًا ثم علا إلى نهنهة، ثم نحيب، ثم صراخ، إلى أن سمعونى وأخرجونى... وعلقة!.

كانت جيعة الكرار فى الدار القديمة تعلو عن أرضية وسط الدار التى كل جدرانها بالطوب النئ «اللبن»، وعليها «لياسة»- طلاء أو غفاق- بخليط من طمى النيل الذى يحضرونه على ظهور الجمال والحمير من أراضى طرح النهر ومن المناطق التى ينحسر عنها ماء النيل، فى زمن التحاريق، أى الجفاف، ومعه تبن قمح أو تبن فول، ويسمونه «قصلة الفول» وبعض روث الماشية، ويعجن الكل بالماء، وتترك الخلطة لفترة حتى تتخمر.

وربما كان الروث «الجلة» هو سبب التخمر، بما يحويه من بكتيريا أمعاء الحيوان، وبواسطة الأيدى توزع اللياسة على الجدران، ثم تتم تسويتها وضبط سمكها- ليكون واحدًا فى كل المساحة- بواسطة اللحوقى، وهو صينية من النحاس الأحمر أو الأصفر قبل ظهور الألومنيوم، لها حواف عالية قليلًا وتستخدم فى طهو الطعام، خاصة صيادية السمك أو الفتة، ويمسكون به ليكون قاعه خارجى المستوى هو أداة تسوية اللياسة أى الغفاق!.

وكانت «الجيعة» مظلمة- كما أسلفت- ويبدو أن الحرص على ظلمتها هو الحل لمنع الذباب من دخولها والتكاثر فى محتوياتها، وإذ تدخلها تشم الروائح التى لا يمكن أن تسقط من ذاكرة الأنف.. رائحة السمن البلدى تفوح من «برانى»- جمع برنية، وهى وعاء فخارى مصقول لتخزين السمن- ورائحة الجبن الحادق القديم فى المش، ورائحة الباذنجان والخيار المحدقين «المخللين» ومعهما الليمون المعصفر أو اللفت، ورائحة الخضار الطازج، خاصة الخيار والطماطم، المفرودين على شوال من الجوت «الخيش»، والعجيب أنه كان لتلك الخضروات رائحة وطعم مميزان، وكانت لا تتلف لمدة طويلة، وإذا مر زمن طويل فإنها تتكرمش وتجف، فتكون مناسبة جدًا للتحديق، أى التخليل، ولم تكن «تمور» أى تهترئ وتصيبها اللزوجة والتحلل، كما هو الحال الآن، رغم وجود التبريد فى الثلاجات!.

ولو استطردت فى محتويات الكرار لما توقفت، لكننى لا أنسى حكاية يوم «العزلة» وتقسيم أرض الغيط وأرض الجرن والبهايم وحطب الوقيد من عيدان القطن والذرة الجافة وأقراص الجلة.. ثم الدار نفسها ومحتويات «جيعة الكرار» بين جدى وجدتى وأبنائهما وبين ابن شقيق جدتى، الذى ربياه حتى كبر هو وإخوته وتزوج وأنجب وأهدياه فرسًا عربيًا أصيلًا.. وتلك قصة أخرى.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من قاع الكرار من قاع الكرار



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 10:38 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر
  مصر اليوم - إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 10:34 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024
  مصر اليوم - الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 10:56 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

نصائح للعناية بالأرضيات الباركيه وتلميعها
  مصر اليوم - نصائح للعناية بالأرضيات الباركيه وتلميعها

GMT 11:46 2024 السبت ,14 كانون الأول / ديسمبر

مبابي أفضل لاعب فرنسي في موسم 2023-2024 ويعادل كريم بنزيما

GMT 09:13 2023 الثلاثاء ,12 أيلول / سبتمبر

بلماضي يعلن أن الجزائر في مرحلة بناء منتخب قوي

GMT 20:43 2021 الخميس ,07 كانون الثاني / يناير

الرئيس السيسي يبحث القضايا الإقليمية مع نظيره القبرصي

GMT 02:29 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

رغدة تكشف كواليس مشاركتها في مسرحية "بودي جارد" مع عادل إمام

GMT 01:03 2020 السبت ,19 كانون الأول / ديسمبر

تقارير تؤكد أن لقاح كورونا يسبب العدوى أيضًا

GMT 08:57 2020 الخميس ,22 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسمنت في مصر اليوم الخميس 22تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 07:50 2020 الأربعاء ,07 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الحديد في مصر اليوم الأربعاء 7 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 00:27 2020 الأحد ,04 تشرين الأول / أكتوبر

ميناء دمياط يستقبل 8 سفن للحاويات والبضائع العامة

GMT 02:36 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

بريطانيا تحذر من موجة ثالثة لكورونا

GMT 09:11 2020 الإثنين ,21 أيلول / سبتمبر

20 مؤشرًا لصناعة الغاز الطبيعي خلال عام

GMT 03:30 2020 الإثنين ,22 حزيران / يونيو

موريتانيا تسجل 171 إصابة جديدة بفيروس كورونا
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon