بقلم : أحمد الجمال
اقتراحات، وصل بعضها لحد المطالبة الآمرة، تلقيتها عبر عديد من الرسائل والمهاتفات التى جاءتني، وكان معظمها من أصدقاء وقراء يقيمون فى بريطانيا وفرنسا وألمانيا، مضمونها تساؤل عن لماذا لا نتحرك لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بتعويض المصريين الذين أجبروا على خدمة الجهد الحربى للحلفاء فى الحرب العالمية الأولى والثانية، ومطالبة بريطانيا تحديدًا بدفع تعويضات مناسبة، مثلما استطاع الصهاينة واليهود فعل ذلك والمبالغة فيه إلى أقصى حد، سواء ماديًا أو معنويًا؟.
كانت إجابتي، أننى سأحاول استنهاض همة من يملك الفتوى فى هذا الأمر، ومعه من يملك القدرة المهنية للمضى فى هذا الواجب الوطني.. ليس فقط لتعويض أسر أولئك الآلاف الذين اختطفوا من حقولهم وقراهم عنوة، وتم إلحاقهم بتلك العملية، فقتل من قتل ومات من مات، وإنما أيضًا لتعويض مصر كدولة عما بذلته من جهد وقدمته من خدمات للحلفاء فى الحربين.
وأود أن أشير إلى أمرين، أولهما توضيح من الدكتور على بركات، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، بأنه ربما جاء اللبس عند البعض، فظنوا أن الجيش المصرى هو الذى شارك فى كل الجبهات كضباط وجنود، من خلال ما ذكره الرافعى فى كتابه: إن عمالًا وفلاحين وهجانة شاركوا فى الحرب الأولى، وقد أدرك الرافعى ورود حدوث لبس لدى البعض، فأشار فى الهامش مفسرًا الهجانة بأنهم الجمالة، أى راكبى الجمال من الفلاحين. أما الأمر الثانى فهو أن لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة، ويرأسها أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور جمال شقرة، ستعقد ندوة أو حلقة نقاش حول تناول التاريخ فى الصحف ووسائل الإعلام، وكيف يعالج ما يحدث من خلط أو نقص فى المعلومات، أو خلل فى التحليل نتيجة عدم التخصص، وهو أمر لا يستهدف الحجر على من يكتبون فى هذا المجال مادامت توافرت لديهم الأدوات المنهجية السليمة والمعلومات الصحيحة.
وأعود إلى مسألة مقاضاة بريطانيا والحلفاء لتعويض المصريين، فأؤكد أن جهدًا سيبذل جديًا فى هذا الصدد، خاصة أن لدينا رجال قانون دولى مرموقين، ولدينا إمكانية جمع الأدلة والوثائق التى من بينها شهادات من عاشوا المحنة على خطوط القتال فى أوروبا، ومنها شهادة يونس عبد الله، ابن قرية الهمامية مركز البداري، التى سبق وأشرت إليها فى مقال الأسبوع الفائت، وقد عدت إليها تفصيلًا فى الجزء الثانى من مذكرات الدكتور عصمت سيف الدولة، الصادر فى مايو 1996 عن كتاب الهلال- وليس 1966 كما جاء خطأ فى المقال السابق- ويهمنى أن أنقل بعضًا منه بالنص، حتى يعرف الجميع كم هو الثمن الذى دفعه شعب مصر عبر العصور، وكم قام الاستعمار البريطانى بجرائم إنسانية ينبغى ألا تمر مر الكرام.
مما جاء فى شهادة أخينا يونس ابن الهمامية:... وبعد خمسة وأربعين يومًا فى الغليون، وسط البحور، رسونا عند بلد من بلاد الفرنساوية اسمها كالي، عرفنا اسمها فيما بعد، حين كانوا يسمحون لنا بأن نذهب إلى تلك البلد كل يوم أحد، قال عشان إيه.. قال عشان تتفسحوا.. نزل الخلق إلى الرصيف قبل غياب الشمس.. أكثر من خمسمائة من جميع البلاد، لكن أغلبهم صعايدة.. قسمونا فرقًا كل فرقة من خمسة وعشرين نفرًا من ضمنهم الريس، وكان من حظى أن فرقتنا فيها أنا من الهمامية وسبعة من الريانية وستة عشر من قاو العتمانية.. يعنى بلديات، وعينوا علينا ريسًا هو ثابت نصار، ولد نصار معوض من العتمانية، ولد ولا كل الرجالة.. واستلمنا واحد مغربى اسمه خليفة، ضابط فرنساوى ويتكلم عربى مكسر، ليتفاهم معنا، وحطوا كل فرقة فى كمبيل كبير، وساقوا مسافة مثل المسافة بين بلدنا والبداري. ويستمر يونس فى روايته عن الطريق والمزارع، إلى أن يصلوا للمعسكر ويتم توزيع الأكل الذى تسبب فى مغص وإسهال لزميلهم قبيصى ولد سالم، من أولاد مصبح، من الريانية.. ثم يصف الأشغال الشاقة تحت إشراف الضباط والمهندسين، والعمل طوال اليوم من الصبح إلى الليل عدا ساعة واحدة للغداء ويوم الأحد، حيث تأخذهم العربيات ومعهم المغربى خليفة وتذهب بهم إلى كالى كاليه، وعندما حاولوا الجلوس على مقهى طردهم الأهالى الفرنساوية، فكفوا عن تكرار الذهاب لكالي.. ويحكى يونس عن كيف استطاعوا اقتناص بعض الإضافات فى الأكل بسلاح الامتناع عن العمل، إلى أن تحدث الواقعة المفجعة حيث كان قبيصى الذى هو من قرية الريانية مريضًا ودهمه الثلج والبرد وهو نائم، بعد أن اقتلعت الرياح وتد الخيمة فمات، وامتنعوا عن العمل بعد أن أقسموا على مصحف كان مع المغربى على أن يكونوا يدًا واحدة.. فلما توقف المطر عاد المغربى ومعه خمسة ضباط معهم جن النار جنرال، ووقفنا وقدامنا الريس ثابت، وأنا كنت واقف فى الصف الخلفي، وأخذ جن النار, أى الجنرال بلهجة يونس, يتكلم وخليفة يترجم بالعربي، وأول الكلام كان حلو.. إلى أن وصل جن النار إلى عبارة قال فيها إنهم كانوا يعيشون عيشة الكلاب فى مصر، وعندها صرخ الريس ثابت ليقول: يوه.. عيشة كلاب يا ولاد الكلاب.. وطخ ضرب جن النار الواقف قدامه بالكوريك فى صدره وشقه ليقع ما نطقش، بعدها فتح الفرنسيون النار على المصريين ليموت أربعة وعشرون وينجو يونس.. إلى آخر ما رويته فى مقال الأسبوع الفائت. شهادة يونس عبد الله طويلة والمساحة لن تكفى.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع