بقلم:جيهان فوزى
ما بين الواقع المتأزم والحلم المستحيل، تحلق أرواح العابرين إلى أوطان لا تشبه أوطانهم التى ضاقت عليهم، ولم تعد تحتمل وجودهم، أو تحولت إلى ثكنات عسكرية يتناحر فيها أصحاب السلطة والمصالح والنفوذ، الهاربون من جحيم الحرب، والباحثون عن الاستقرار والأمان والاطمئنان، تجمعهم هموم واحدة، وهدف وحيد، كيف يستردون وطناً سُلب منهم وأصبح أثراً بعد عين.
مع أى غيمة عابرة نبحث عن واقع أفضل، وننقب عن طرق للخلاص، فكانت الصيحات التى تنفث ألماً، هى من ترسم ملامح الوطن، الحلم الذى قد يمنحنا الحب وينقذنا من هذا الموت الذى يسكننا ونحن أحياء، نسعى للحياة بكل ما أوتينا من قوة، إنه الوطن الملاذ والسكينة والأمن والأمان.
«ما هو الوطن؟ هو سؤال الجرح المفتوح، والإشكالية التى لا تنتهى، يدعونا للتساؤل عما آلت إليه أوطاننا، التى أصبح فيها الحلم جريمة، والأمن مستباحاً، والحرية سجناً كبيراً تفوح منه رائحة الفساد والفاسدين، فهل نسميه وطناً؟! وهو المحاصر أرضاً وبحراً وجواً، بلا كهرباء أو دواء أو ماء. نفتقد هنا كل أسباب الحياة الطبيعية، مطاردون حتى فى نومنا، ليلنا يضج بالكوابيس، يتساءل المواطنون اللاجئون فى أوطانهم.. فى لبنان، وفلسطين، وسوريا، واليمن، وغيرها من البلدان حيث فى لحظة وجدوا أنفسهم فى عراء الطرقات، ينهشهم الجوع، وظمأ الحنين إلى رشفة ماء من عرق الأرض، وأصبحوا فى عداد المفقودين، شعوباً عاجزة، شردتها الحروب واستقبلتها المنافى وجوازات اللجوء، تحلم بكسرة خبز تسد الرمق، تعبر عن فجيعتها فى الوطن باللطم والعويل وأحياناً الهروب إلى الخلف، ثم تدخل فى أعماق الحنين إلى أوطانها، وتترجم هذا الحنين بما يعتمل داخلها من مشاعر الأنين والوجد لهذا الفقد، فلم يعد ما تراه نصب أعينها وطناً، لكنه شىء ما ربما يشبه الوطن الذى تحلم به. فى الصباح يرتشفون قهوة القهر، ويمضغون بقايا ذكريات تركوها خلفهم وولوا هاربين.
كيف أصبحت لبنان عروس الشرق بهذا البؤس والفقر والعوز؟ كيف تحولت إلى كتلة من نار أحرقت الأخضر واليابس؟ جاع أهلها، وتمرغت كرامتهم فى طين الأثرياء الذين نهبوا خيراتها وداسوا على كبريائها، ومزقته الصراعات الحزبية والطائفية، لبنان التى كانت تضج بالحياة، لم تعد هناك، أهلها كسرهم الفقر والحاجة، وأذلهم حكامهم المتخمون بالفساد، أرواحهم معلقة بمستقبل مظلم وظروف اقتصادية بالغة السوء، وصلت إلى حد الإهانة، حين يضرب أساتذة الجامعات المقبلة على امتحانات نهاية العام، لأنهم لا يجدون فى جيوبهم ثمن البنزين الذى يوصلهم إلى مقر عملهم، فماذا هم فاعلون؟ حكومة عاجزة ودولة على شفا الإفلاس، وشعب طحنته الهموم وهو ما كان يميزه الفرح والحبور فى أشد الأزمات التى مرت عليه، الآن يعيش اللبنانيون أسوأ أيام حياتهم، يكفى أن تدخل أحد المطاعم الراقية، فيعتذر لك النادل أنه لا يوجد خبز! فكيف يمكن تصور ذلك؟ فى فلسطين الأمر مختلف مع تشابه التفاصيل، شعب شرد وحرم من العيش فى وطنه بفعل الاحتلال، يقضم أراضيه أمام عينيه والعالم لا يحرك ساكناً، يحاصره فى كانتونات صغيرة معزولة، يسرق ماءها وأرضها وهواءها وتاريخها ويحولها إلى مستوطنات، يفرض قوانينه العنصرية، ويحرمه من حقوقه فى العيش والحياة، ويمارس الأبارتهايد لتهجيره من وطنه المستلب من احتلال غاشم. أما اليمن السعيد، فقد غابت عنه السعادة، وأصبح اليمن التعيس، يعانى الشعب اليمنى ويلات الحرب والصراع المذهبى والسياسى، ومن تناحر الطامعين فى السلطة، دمر النزاع والاقتتال والتدخل الخارجى ما تبقى من ملامح خريطة بلادهم، وشرد سكانه إلى مجاهل الجبال القاحلة والأدغال الموحشة، ليواجهوا مصيرهم المجهول، فى سوريا أبيدت مدن بكاملها، وتحولت إلى مدن تسكنها الأشباح، أكثر من نصف سكانها أصبحوا لاجئين مهجرين فى دول شتى، يهيمون على وجوههم فى بلاد غريبة يخاطرون بحياتهم وهم يلقون بأنفسهم فى عرض البحر فإما أن تلتهمهم الأسماك، وإما أن تقذفهم الشواطئ منهم الأحياء ومنهم الأموات وإما أن يتعرضوا للاعتقال والترحيل، وفى كل الأحوال يجهلون مصيرهم، تاركين إياه للظروف.
لا يعرف قيمة الوطن إلا من فقدوه، وفى غمضة عين وانتباهتها، أصبحوا لاجئين، جل طموحهم ينحصر فى توفير مكان يؤويهم، ولقمة خبز تسد جوعهم، وعمل يساعدهم على الاستمرار فى الحياة، أما حنين العودة إلى أحضان الوطن، فقد أصبح حلماً مستحيلاً، بعيد المنال، الوطن هو الهوية والتاريخ والتراث والأمان وكرامة الإنسان، بدونه نصبح بلا قيمة، مجرد رقم فى قائمة المشردين فى الأرض، الباحثين عن وطن، لعلهم يجدونه قبل فوات الأوان!