بقلم : جيهان فوزي
شأنه شأن مجمل الفلسطينيين الذين احتضنتهم المنافى، وصقلت تجربتهم الغربة، كان يتساءل: هل الوطن هو الدواء حقاً لكل الأحزان؟ وهل المقيمون فيه أقل حزناً؟ كان يجد فى شجر الزيتون ضالته التائهة وهويته الراسخة.. «زيت الزيتون بالنسبة للفلسطينى هو هوية المسافر، اطمئنان العروس، مكافأة الخريف، ثروة العائلة عبر القرون، زهو الفلاحات فى مساء السنة، وغرور الجرار».. ويلوم من كان سبباً فى ضياع الوطن فى غفلة من التاريخ.. «كيف تنعس أمة بأكملها؟ كيف غفلنا إلى هذا الحد.. إلى هذا الحد بحيث أصبح وطننا وطنهم».
هو الشاعر الفلسطينى «مريد البرغوثى» الذى رحل عن عالمنا فى مستقره أو منفاه الأخير فى الأردن قبل نحو أسبوعين، هو ابن فلسطين البار الذى تنقّل بين المنافى، وذاق مرارة الاغتراب والغربة، فلسطينى الهوى والنشأة، تلقى تعليمه الأساسى فى قريته دير غسانة قرب رام الله، ثم سافر إلى مصر ليلتحق بجامعة القاهرة، وتخرّج فى قسم اللغة الإنجليزية عام 1967، وهو العام الذى احتلت فيه إسرائيل الضفة الغربية، ومنعت الفلسطينيين الذين تصادف وجودهم خارج البلاد من العودة إليها، وفى هذا الصدد كتب مريد فى روايته «رأيت رام الله» عبارته الشهيرة: «نجحت فى الحصول على شهادة تخرجى وفشلت فى العثور على حائط أعلق عليه شهادتى». لم يكن البعد الجغرافى بالنسبة له وحده هو الغربة، المظلوم فى وطنه غريب، الأعزل إزاء قوة البطش غريب، الفقير فى دولة اللصوص المتلاعبين بالمال غريب. الاحتلال الأجنبى قد يطردك إلى المنفى، والدكتاتورية المحلية تنفيك وأنت فى قلب عاصمتك. هذا درس الحرية الأول الذى تعلَّمه البرغوثى فى منفاه، فالظلم واحد والعدالة واحدة أياً كان مكانك. وأنت تجد هذه المعانى معززة بأحداثها الواقعية الملموسة ليس فى روايته ذائعة الصيت «رأيت رام الله» فحسب، بل فى «ولدت هناك ولدت هنا» وهى بمثابة الجزء الثانى من «رأيت رام الله» كما أنك تجد إشارات لها فى «الأعمال الشعرية الكاملة» التى صدرت له فى القاهرة.
احتفظ «مريد البرغوثى» بمسافة بينه وبين المؤسسة الرسمية ثقافياً وسياسياً، لأن الكاتب الحقيقى من وجهة نظره لا يعرف الطاعة المغمضة العينين، المؤسسة الرسمية الفلسطينية، شأنها شأن كل سلطة، تخشى من يفكر بشكل مستقل، تخشى من يسأل ويناقش ويعترض، والكاتب الحقيقى هو ذاك الذى يفكك ويخلخل ويُزعج، لا ذاك الذى يبايع وينسجم ويدرب أصابعه على نقر الدفوف طرباً من كل كلمة تقولها السلطة. الكاتب الحقيقى يقف مع اسمه، وليس مع الناطقين باسمه، يقف مع الوطن وليس مع حكومة الوطن.. «انظروا إلى أين أوصلتنا السلطات المتعاقبة، الأرض تُسرق من تحت أقدامنا يومياً بالاستيطان، والحقوق تتآكل يومياً مع كل جولة تفاوض مع العدو، وفلسطينيو الشتات لا أحد يمثلهم، والانقسام الممل يزداد عمقاً بين الأطراف التى تدّعى الشرعية، ومنظمة التحرير راقدة فى مستشفى التاريخ، وليس مسموحاً لأحد أن يفكر فى علاجها، حتى المصالحة التى يتحدثون عنها أصبحت نكتة لا تثير الضحك»، فكتب منذ أن ابتُذل مفهوم المصالحة وتحول إلى محاصصة وتقسيم نفوذ للطرفين: إننى ضد هذه المصالحة الوطنية لأننى مع «وطنية المصالحة».
رحل عن عالمنا دون أن يرى وجه الوطن الصبوح كما تمناه، رحيل صامت فى منفاه الأخير الذى توج سيرته الذاتية وأعماله الأدبية، رحل دون ضجيج، لم يمهله القدر أن يرى مصالحة لازالت بعيدة، رغم الحراك السياسى الذى يدور بين أطراف الصراع، اختار البقاء بعيداً عن مهاترات السياسة ولغة المصالح والطموح البعيد عن مصلحة الوطن، ربما كان نافذ البصيرة واستقرأ المستقبل القاتم، فآثر الانسحاب بصمت، حين أدرك أن الوعى الجمعى الفلسطينى أصبح نهباً للتجاذبات، تماماً كما هو حادث على الساحة السياسية العربية، فالمشهد يكاد يكون مطابقاً مع اختلاف التفاصيل.