بقلم - جيهان فوزى
بعد اغتيال شيرين أبوعاقلة برصاص قناص إسرائيلى فى شهر مايو الماضى، كثر اللغط والحديث عن طبيعة الرصاصة التى اخترقت رأس «شيرين» من الرقبة وتسبّبت فى تهشُّم جمجمتها، ومن ثم وفاتها، وفى خضم الأحداث التى تبعت استشهاد «شيرين»، كان الغضب والاحتقان الفلسطينى على أشده، شعباً وسلطة، ورفضت السلطة الفلسطينية بكل السبل مشاركة إسرائيل فى تحقيقها الجارى حول جريمة اغتيال «شيرين»، وشعبياً كان التفاعل والتعاطف مع قضية مقتل «أبوعاقلة» والثأر لها هو المتصدّر للمشهد العام الفلسطينى، ففى خطبة لأحد أئمة المساجد فى مدينة خانيونس، قالها صراحة وبصوت يرعد فى سماء غزة: «نحن أولياء الدم»، أى أن دماء شيرين لن تذهب هدراً، وأن الشعب الفلسطينى بجميع أطيافه مسئولون عن القصاص لدماء شيرين.
وفى هذه الأثناء كانت النيابة العامة الفلسطينية طوال الوقت تؤكد أن الرصاصة التى قتلت «شيرين» غدراً لن تسلّم إلى أى جهة إسرائيلية أو أمريكية، الأمر الذى أثلج صدور الفلسطينيين، فتسليم الرصاصة يعنى بالضرورة ضياع حق الشهيدة، وبالتبعية الاستسلام لضغوط إسرائيل وأمريكا لفبركة الجريمة، وتسطيحها، كى تتوه الأدلة وتسقط التهمة المباشرة عن إسرائيل، وللأسف هذا ما حدث بالفعل تحت وطأة الضغوط الأمريكية - الإسرائيلية طوال الشهرين الماضيين.
الخبر المؤسف والصادم هو رضوخ السلطة الفلسطينية لهذه الضغوط وتسليمها رصاصة الغدر التى قتلت «شيرين» بدم بارد إلى جهات التحقيق الأمريكية، وبالتالى وقوعها صيداً ثميناً فى أيدى أجهزة التحقيق الإسرائيلية لفحصها، والخروج بتقرير لن يكون إطلاقاً منصفاً للفلسطينيين، وهذا يعنى أن «شيرين» قُتلت مرتين: الأولى برصاصة القناص الغادرة، والثانية عندما قرّرت السلطة الفلسطينية تسليم أداة القتل إلى قاتلها! فلماذا تتهاون السلطة الفلسطينية فى حق أصيل لها مهما مورس عليها من الضغوط والابتزاز السياسى؟ لماذا تسلم السلطة الفلسطينية هكذا ببساطة رقبتها لجلاديها؟ حتى إن كان التساؤل يبدو ساذجاً، غير أن هناك من الثوابت الفلسطينية التى كانت حصناً للفلسطينيين، ودعماً لحقوقهم المسلوبة، وهو عدم التفريط فى حق من حقوقهم الثابتة.
مجرد الاستسلام للضغوط والابتزاز اللذين مورسا على السلطة الفلسطينية ونيابتها العامة، يعنى أنها تخلت عن جزء أصيل فى حقها بتحديد الجانى، ومن ثم اللجوء إلى القنوات الرسمية والقانونية الدولية، والمحكمة الجنائية، لمحاكمة إسرائيل على جرمها الصارخ والواضح بحق الفلسطينيين، لقد خيبت السلطة الفلسطينية آمال الفلسطينيين مرة تلو أخرى، حين خيّبت آمالهم فى الدفاع عن حقوقهم المشروعة وثوابتهم التى كفلها القانون الدولى، مهما حاولت إسرائيل العبث فيها، وكانت فرصتها مواتية لإثبات جدارتها فى صون تلك الحقوق والدفاع عنها، مهما كان الثمن، لكن السلطة الفلسطينية للأسف أذعنت للضغوط وخذلت شعبها، حينما لبّت مطالب الإدارة الأمريكية، وعلى رأسها وزير خارجيتها «اليهودى» أنتونى بلينكن، الذى أصر مراراً وتكراراً على تسليم الرصاصة لجهات التحقيق الأمريكية، للوقوف على ماهيتها ومن أطلقها؟! وهو الأمر الذى يعنى أن السلطة الفلسطينية ألقت بأدلتها الدامغة التى تدين إسرائيل، فى حضن إسرائيل ذاتها. فهل تعتقد السلطة الفلسطينية أن الولايات المتحدة ستكون نزيهة فى تحقيقاتها وتدين إسرائيل؟ أغلب الظن أن تسفر تحقيقاتها المشتركة مع إسرائيل، وهى الطرف الخصم فى القضية، بالخروج إلى نتائج، مفادها أن الرصاصة لم تكن موجّهة إلى «شيرين»، وأن القتل حدث بالخطأ فى ظروف اشتباكات ميدانية من الطبيعى أن تخرج رصاصة طائشة دون قصد، وهو ما ينفى نية إسرائيل المبيّتة بالقتل العمد، والذى أكدته الكاميرات، وشهود العيان، وتحقيق النيابة العامة الفلسطينية، ومنظمات حقوق الإنسان، والصحف الأمريكية نفسها، فقد أكدت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية من خلال تحقيق استقصائى لها، صحة الرواية الفلسطينية وبالأدلة القاطعة، أن الرصاصة خرجت قصداً لقتل شيرين. وها هى السلطة الفلسطينية بكل بساطة تسلم «القط مفتاح الكرار».
وما يؤكد ذلك تصريحات المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى «ران كوخاف» لإذاعة الجيش: «الإسرائيليون سيفحصون بحضور أمريكى الرصاصة التى قتلت شيرين أبوعاقلة، إذا قتلناها فإننا سنتحمل المسئولية، و«سنأسف لذلك»!! «فقط سيأسفون لذلك»! دماء شيرين غالية، وهى جزء من دماء الشعب الفلسطينى، التى تُراق كل يوم، على أيدى الإسرائيليين، دون أن يحاسبها أحد. كان أولى بالسلطة الفلسطينية، وعلى رأسها محمود عباس أن يتمسّك بحق الفلسطينيين فى مقاضاة إسرائيل، لما ثبت بين يديه من أدلة دامغة تدين إسرائيل، وألا يخضع للابتزاز الأمريكى والضغط الإسرائيلى مقابل حفنة «تيسيرات سخيفة»، من ضمنها موافقة الرئيس الأمريكى «جو بايدن» على لقاء «رئيس السلطة أبومازن» خلال زيارته المرتقبة منتصف الشهر الحالى فى «بيت لحم»، ضمن زيارته للأماكن المقدسة المسيحية! وليس فى مقر إقامة الرئيس عباس فى رام الله، وهو البروتوكول المتبع فى كل الزيارات الرئاسية الرسمية.