فى الوقت الذى تستمر فيه الحرب الروسية على أوكرانيا تواصل إسرائيل الحرب العدوانية على غزة، فنحن هنا أمام حربين فى الوقت نفسه، ما يدفع حتماً إلى عقد المقارنة ما بين أهمية وأسباب وآثار ونتائج كل منهما.
فالحرب الروسية على أوكرانيا لا تقل أهمية فى نظر الكرملين عما تزعمه إسرائيل من حرب وجودية مع حماس، ذلك لأن موسكو تعتقد أنه لا بد من كسر شوكة أوكرانيا بالنظر إلى ما تراقبه من تقارب حثيث مع الناتو ومع الولايات المتحدة على وجه الخصوص، وما تشهده من تحريض على قومى شيفونى ضد روسيا وضد الأقلية الناطقة بالروسية شرق البلاد.
وما دفع موسكو إلى شن الحرب هو اعتقادها الوثيق بأن أوكرانيا تتحول سريعاً إلى رأس حربة للناتو فى مواجهة روسيا، وهو ما دفع بوتين المعروف بجرأته إلى استباق هذا التحول، بشن حرب توسعية تهدف إلى تحقيق هدفين: أولهما السيطرة على كل الأقاليم الشرقية الناطقة بالروسية، وثانيهما كسر الاتجاه القومى الأوكرانى وإزاحته من السلطة، وتعزيز حضور الأحزاب المعتدلة التى كانت تميل إلى تجنب الصدام مع روسيا قبل وصول زيلينسكى إلى السلطة.
لكن هناك عوامل جوهرية أجبرت روسيا أن تكون حربها نظيفة ودقيقة إلى أبعد الحدود، ولعل أهم هذه العوامل أن كلا الشعبين الروسى والأوكرانى ينتميان إلى العرق «السولافى» نفسه، والثانى أن حرباً قذرة تفضى إلى تدمير واسع وقتل بلا حدود سيؤسس عداوة أبدية مع بلد جار لروسيا، ما يمثل خطراً استراتيجياً مستقبلياً لا يمكن الاستهانة به.
فى مقابل هذه السياسات الروسية الدقيقة والمدروسة، نجد أن السياسات الإسرائيلية على النقيض من ذلك تماماً رغم تشابه الظروف العامة، والشروط الموضوعية للنزاع، كحرب وجودية لكلتا الجبهتين.
إلا أن واحدة من الحقائق التى لن تتبدل هى أن إسرائيل باقية والشعب الفلسطينى باق إلى أمد غير معلوم، وأن ما تكبده إسرائيل من خسائر بشرية هائلة للشعب الفلسطينى سيبقى محفوراً فى ذاكرة أجياله المتعاقبة لعقود مقبلة، وسينقش فى ذاكرة أطفال غزة، وأبنائهم وأحفادهم فى المستقبل، باعتبار أن الثأر واجب مقدس لا فكاك منه.
هنا يبدو الفارق الأهم بين الحربين، فعلى الجبهة الروسية - الأوكرانية هناك حرب نظفية مع عدد أقل من الضحايا المدنيين والبنية التحتية والعمرانية، مقابل قتل متعمد وتدمير منهجى على الجبهة الإسرائيلية مع غزة.
أما الفرق الثانى فهو أن الهدف الأول للحرب الروسية مع أوكرانيا هو إرغام أوكرانيا على استبدال سياساتها الشيفونية بسياسات معتدلة محلياً ومحايدة دولياً، بينما الحرب الإسرائيلية على غزة، فإنها حرب بلا أفق سياسى ولا تهدف إلا إلى قتل أكبر عدد من الفلسطينيين، وضرب كل إمكانية لمتابعة الحياة الطبيعية فى قطاع غزة، لتحفيز الفلسطينيين على الهجرة.
من هنا تبدو أهمية ملاحظة انفراد حكومة نتنياهو من بين دول العالم كافة بشن حرب هى الأكثر دموية وقذارة منذ الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا.
إن تصريحات الرئيس الروسى فلاديمير بوتين تعليقاً على الحرب الإسرائيلية على غزة التى قال فيها: «انظروا إلى الوضع الكارثى فى غزة وإلى العملية العسكرية الخاصة (الحرب على أوكرانيا) والمسوا الفرق، لا شىء مثل هذا يحدث فى أوكرانيا».
تعنى أن الحرب على أوكرانيا لم تكبد المدنيين الأوكرانيين هذه الخسائر الهائلة فى الأرواح والعتاد، والإمعان فى حرب التجويع والإبادة التى يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلى ضد المدنيين الفلسطينين فى غزة، منذ اندلاع الحرب فى السابع من أكتوبر من العام الماضى.
ومع ذلك فإن اللاعب الرئيسى فى إثارة القلاقل وتصاعدها حول العالم يتمحور حول السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الدول، ومحاولتها فرض السيطرة والهيمنة عليها اقتصادياً وسياسياً.
وفى الوقت الحالى تواجه السياسة الخارجية الأمريكية ثلاث معضلات حقيقية شديدة الخطورة، وهى من ساهمت فى تأجيجها بدلا من إخمادها: «الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين فى غزة، والحرب الروسية - الأوكرانية، مروراً بالصراع بين الصين وتايوان».
إن الحرب الإسرائيلية على غزة فضحت بشكل صارخ ازدواجية المعايير الأمريكية فى سياستها وتعاملها مع الأزمات السياسية مع دول العالم، ففى حين لا يتردد مسئولو الحكومة الأمريكية فى توجيه الاتهامات لروسيا وإدانتها، ومحاصرتها بفرض عقوبات قاسية عليها بسبب الحرب فى أوكرانيا، يتخذون موقفاً مناقضاً تماماً فيما يتعلق بحرب الإبادة الممنهجة التى تشنها إسرائيل على قطاع غزة!
ويدلى المسئولون الأمريكيون بتصريحات تؤكد وقوفهم إلى جانب إسرائيل، ويصفون حركة حماس «بالإرهابية» رغم أنها حركة تحررية تقاوم الاحتلال، وفقاً للمواثيق والشرائع الدولية.
وهنا لا بد من التذكير بأن عدد الضحايا المدنيين للقصف الإسرائيلى على مستشفى «المعمدانى» فى غزة مع بداية الحرب، كان أكبر بكثير من خسائر استهداف روسيا لمستشفى «ماريوبول» الأوكرانى فى 9 مايو 2022، ومع ذلك فإن الإدارة الأمريكية لم تظهر نفس رد الفعل القاسى تجاه تل أبيب، بعكس ما قامت به ضد روسيا، بل وتهربت من تحميل إسرائيل مسئولية القصف.
ففى تعليقه على استهداف المستشفى فى ماريوبول، قال الرئيس الأمريكى جو بايدن: «إن هذا ظلم، وعار على العالم بأسره، فالعالم كله متحد من أجل دعم أوكرانيا، وجعل (الرئيس الروسى فلاديمير بوتين يدفع ثمناً باهظاً).
بينما فى المقابل، قال بايدن بشأن الهجوم الإسرائيلى على مستشفى المعمدانى بغزة «حزنت كثيراً على الانفجار فى المستشفى، وغضبت كثيراً، وبحسب ما رأيت فإن المسئول عن ذلك لستم أنتم (إسرائيل) وإنما الطرف الآخر»!
محاولاً تبرئة إسرائيل رغم عدم امتلاكه أى دليل يثبت ذلك، كما وصف بايدن ما حدث فى أوكرانيا بأنه «إبادة جماعية»، بينما غادر مؤتمراً صحفياً عند سؤاله بشأن إسرائيل.