طلب الشهادة، فنالها.. عملية اغتيال كرتونية صورتها إسرائيل على أنها النصر المبين، لم تكن عملية الاغتيال نتيجة لإمكانات الموساد الذكية، ولا معلومات استخبارية دقيقة، بعدها انقضت على الهدف، بل كان الهدف سهلاً، مكانه معروف، يتنقل على مرأى الجميع، لم يبذل الموساد أى جهد لاقتناصه، ولن تحصل إسرائيل على صورة النصر التى تتمناها من حربها الضروس على قطاع غزة منذ ثلاثة أشهر.
رغم شعور الإسرائيليين بالزهو والانتصار لاغتيال القائد «صالح العارورى» نائب رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، فى مكتبه بالضاحية الجنوبية فى بيروت، إلا أن هذا الانتصار زائف، ولن يحقق الهدف المنشود بكسر إرادة المقاومة الفلسطينية وحاضنتها الشعبية، سياسة الاغتيالات للقيادات الفلسطينية أسلوب قديم ينتهجه الاحتلال الإسرائيلى، فلم يكن العارورى الأول، ولن يكون الأخير.
اغتالوا من قبله الشيخ أحمد ياسين، وعبدالعزيز الرنتيسى، وصلاح شحادة، ويحيى عياش، وغيرهم من قيادات حركة حماس، كما اغتالوا الرئيس ياسر عرفات، وأبوعلى مصطفى، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فهل أفل نجم المقاومة وولت أدبارها؟ الإجابة لا.
المقاومة الفلسطينية مستمرة، هى فكرة راسخة متجذرة فى الوعى الفلسطينى، وليست أشخاصاً يستشهدون، ويختفون من المشهد باغتيالهم من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
لطالما اعتبر الشيخ صالح العارورى نفسه «مشروع شهيد» يسير على قدمين، كان يتمنى الشهاده، فتحققت أمنيته، كما ذكرت والدته وهى تتحدث بثبات ورباطة جأش بعد تلقيها خبر استشهاده، لم تتشح بالسواد، ولم تلطم خديها، كانت هادئة مسلمة بقضاء الله وقدره، واعتبرت ولدها عريساً يزف إلى السماء، وقد نال ما كان يتمناه!
تجاهر إسرائيل ولا تخفى نواياها بالقضاء على قيادات المقاومة الفلسطينية، فقد تعودت على تلقى الدعم مع كل عملية اغتيال جبانة تنفذها، أو اختراق لسيادة الدول التى تكون مسرح عملياتها، حيث لا أحد يجرؤ على محاسبتها، أو إدانة عملياتها الإجرامية المناهضة للقانون الدولى، وحقوق الإنسان، التى أصبحت مصطلحات لا تعبر عن مضمونها بالنسبة للفلسطينيين، ولم تعد تستوقفهم، بعد أن يئسوا من ازدواجية معايير المجتمع الدولى، والكيل بمكيالين.
وكما لا تخفى إعلانها عن خطط اغتيال القيادات الفلسطينية، لا تخفى مجاهرتها بمخططات التهجير القسرى لسكان قطاع غزة، تحت مسمى «الهجرة الطوعية»، وهو مفهوم مضلل عارٍ عن الحقيقة، إسرائيل تدفع الفلسطينيين دفعاً للهجرة، بتيئيسهم وإفقادهم كل مقومات الحياة، عن طريق فرض الحصار ومنع دخول المساعدات الإغاثية من وقود ودواء وغذاء.
وشن الغارات والقصف المدفعى المتواصل على المربعات السكنية وإبادة أحياء بالكامل، والبنية التحتية والمستشفيات والمدارس والجامعات والاعتقال والقتل الممنهج، ورغم ذلك يواجه الفلسطينى مخططاتهم بالصمود والثبات، التصريحات الإسرائيلية المتواترة سواء من غلاة اليمين الصهيونى المتطرف من وزراء فى حكومة نتنياهو مثل بن غفير وسموترتش ووزيرة الهجرة، أو أعضاء فى الكنيست (البرلمان)، تأتى كاشفة لمخطط التهجير، والإصرار عليه، ومنها تتبلور سيناريوهات تنفيذه بدقة!
فإذا كانت سياسة الاغتيال للقيادات الفلسطينية لن تكون مؤثرة، أو ناجزة، فإن مخطط التهجير لا يزال قائماً، وهو الخيار الأفضل والأمثل لإسرائيل، ويجهز له بمساعٍ حثيثة، بل بدأت تبحث هذا السيناريو مع دول مثل الكونغو وكندا وأستراليا ونيوزيلندا لاستيعاب عدد من الفلسطينيين وفق الظروف المواتية؟!
ورغم معارضة المجتمع الدولى والإدارة الأمريكية، ورفضهم مناقشة سيناريوهات من هذا النوع، كما يعلن مسئولون أمريكيون وغربيون، واعتبارها خطاباً تحريضياً.
إلا أن إسرائيل ماضية فى مخططها دون أن تأبه بالمحاذير الأمريكية، أو الأوروبية، مرتكنة إلى سياسة الأمر الواقع، فهناك ما يقارب من مليون و900 ألف فلسطينى نزحوا من بيوتهم إلى مدينة رفح جنوب قطاع غزة المتاخمة للحدود مع مصر، ما يعكس خطورة الأوضاع الأمنية التى تدعم فرض التهجير القسرى، تحت وطأة القصف والاستهداف المباشر للنازحين.
تتعامل إسرائيل مع معضلة «غزة فى اليوم التالى من الحرب»، بتخبط وارتباك شديدين، يظهر ذلك من خلال سلسلة من المتوازيات المطروحة، الاغتيال لقيادات المقاومة بعد أن فشلت فى تحقيق أى انتصار يعزز أهدافها المعلنة كتحرير الأسرى، والقضاء على حركة حماس والمقاومة المسلحة، ومضيها قدماً فى مخطط تهجير سكان غزة إلى دول الجوار وبعض دول العالم، والتخطيط لإقامة منطقة عازلة داخل القطاع والإبقاء على سيطرتها العسكرية فيه، احتلال محور فيلادلفيا الفاصل بين قطاع غزة ومصر وإنشاء جدار إلكترونى ذكى.
كل هذه الأفكار فشلت، وكتبت فصول نهايتها قبل أن تبدأ، أولاً بالصمود الأسطورى للفلسطينيين، الذين ضربوا مثالاً عظيماً فى الصبر والتحمل والتضحية بالغالى والنفيس، والإصرار على البقاء ورفض النزوح، ثانياً سياسة الاغتيالات مهما عظم قدر المستهدف لم يغير من واقع وجود المقاومة، ولم يؤثر على تماسكها أو يغير من استراتيجيتها، فإذا تعثرت تنهض أقوى وأشد.
ثالثاً المجتمع الدولى والولايات المتحدة الأمريكية رغم التواطؤ والدعم لكل أشكال الإجرام الإسرائيلى، يظل هناك خطوط حمراء لن يُسمح بتجاوزها، حتى لو تقاطعت المصالح والأهداف، وأخيراً سيظل مخطط التهجير وتطهير غزة من سكانها حلماً ليس بعيد المنال فقط، بل لن يتحقق إلا فى خيال الاحتلال الإسرائيلى المريض والمهووس بوهم اسمه «من النيل إلى الفرات».