بقلم - جيهان فوزى
طوال السنوات الماضية التى كان فيها قطاع غزة محاصراً معزولاً لا يلتفت إليه أحد، لم نفكر أنه سيأتى اليوم الذى تصبح فيه هذه البقعة الصغيرة المنزوية فى أحضان البؤس والفقر والحصار والاحتلال الغاشم، لتكون من أشهر بقاع الأرض. ويتردد اسمها فى كل مكان شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، فقد أصبحت غزة «أيقونة» وذات شهرة عالمية يتظاهر من أجلها طلاب الجامعات والنشطاء والسياسيون والمواطنون العاديون فى معظم دول العالم، تقديراً وإعجاباً بصمود أبنائها الأسطورى فى وجه آلة الحرب الوحشية التى يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلى منذ نحو سبعة أشهر قتل فيها البشر والشجر والحجر لم يُبق على شىء، ومع ذلك سجل أهلها قصصاً بطولية مذهلة فى الصمود والصبر والتحمل والاستبسال، وذاقوا العذاب ألواناً بالمعنى الحرفى للكلمة، حتى إن الحجر نطق، وانحنى إجلالاً لصمود أهلها الأسطورى، أمام بطش وفاشية الاحتلال.
«شكراً نتنياهو» فقد عرفّت العالم دون أن تقصد مَن هم الفلسطينيون؟ وكيف يضحى الفلسطينى ويدفع ثمن الحرية التى ينشدها منذ 75 عاماً، فى وقت بائس ظل العالم فيه مضللاً، متجاهلاً أطول قضية احتلال عرفها التاريخ، دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن حل لشعبها المشرد، الذى ذاق كل أنواع اللجوء والشتات.
هذا ليس حظ غزة، بل ربما هو قدرها الذى لا فكاك لها منه منذ نشوء القضية الفلسطينية وبعد الحرب والتقسيم، ووسط شبه الضياع الذى ساد الهوية والقضية، بدأت غزة قبل أى تجمع سكانى فلسطينى آخر، تتلمس الطريق نحو استعادة الهوية والتقاط زمام المبادرة والكفاح من أجل الحرية وتقرير المصير، وعلى هذا لم يكن من المستغرب أن تكون بدايات الحركة الكفاحية الفلسطينية، قد نشأت فى غزة أولاً، ونلاحظ أن حركة فتح قد نشأت من بين أبناء غزة ومن بين طلابها تحديداً، إضافة إلى معلميها الذين انتشروا بحثاً عن العمل فى بعض البلدان العربية، وفى الكويت على وجه التحديد. وينطبق الأمر نفسه على حركة حماس والجهاد الإسلامى، كما يجب أن نلاحظ أن الانتفاضة الأولى قد اندلعت شرارتها من غزة ومن جباليا تحديداً، كذلك كانت الانتفاضة الثانية التى أشعلتها غزة وانتشر لهيبها فى كل الأراضى الفلسطينية.
إذن، فإن هذه الرقعة الجغرافية المحدودة والضيقة والمحاصرة، كانت هى مَن حمل شعلة التحرر الوطنى وكانت السباقة إلى المقاومة بكل أشكالها، وكان لها الفضل فى تأصيل الهوية الفلسطينية وحمايتها من التماهى مع أى هوية أخرى أيديولوجية أو قومية أو دينية، ولهذا بالتأكيد أسبابه التى يمكن تلخيصها بخصوصية مجتمع غزة المشكل فى أغلبيته من لاجئى عام 1948 ونازحى عام 1967، وما اتصفت به حياتهم من فقر مدقع وحرمان وملاحقة بالسلاح والاعتقال من جانب قوات الاحتلال، خاصة فى الأعوام ما بين (48- 67).
أولئك الهاربون إلى غزة كانوا يرون بأم أعينهم أراضيهم وبيوتهم التى فروا منها، تُحتل وتُغتصب من مستوطنين جاءوا من مشارق الأرض ومغاربها. لقد صهرت غزة كل الدوافع الوطنية والإنسانية والدينية فى أفئدة الغزيين لتحولهم من تجمع بشرى إلى كتلة مقاتلة، دقت أول مسمار فى نعش الاحتلال، وتحقق أول انتصار لها عام 2005، بإرغام أرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلى حينها، على تفكيك المستوطنات اللقيطة فيها والانسحاب بلا شروط من غزة، فقدمت بذلك المثل والنموذج لكامل أبناء الشعب الفلسطينى وقواه الحية. وها هى الآن تقدم المثل والنموذج للعالم كله الذى بدأ بصحوة غير مسبوقة تحت وطأة صورة شديدة التناقض، فيها من الإجرام والبطش، بقدر ما فيها من الصمود والعزيمة والصبر، فكان وقع تلك الصورة على العالم بمثابة هزة عنيفة حركت مشاعر البشر، ودفعت بهم إلى الميادين وساحات الجامعات ومواقع التواصل الاجتماعى والصراخ بأعلى الصوت لإدانة الحرب والمطالبة بوقفها فوراً.
ذلك هو قدر غزة، أن يبدأ من أزقتها ومخيماتها الضيقة رسم مسار آخر للتاريخ على هذه الأرض، لا يقرره الطغاة ولا يحدده المستعمرون.