نتنياهو، جالانت، جانتس، ثلاثى مجلس الحرب، ورءوس أفعى العدوان النازى على قطاع غزة، يعيشون أسوأ أيام حياتهم، رغم الظهور بمظهر المنتصرين الذين أبلوا بلاءً حسناً ولا يزالون فى الحرب، لكنهم يتكبدون خسائر عسكرية فادحة كلما توغلوا وغرزوا فى وحل غزة، يظهرون ما لا يبطنون، ثلاثتهم كارهون لبعضهم، طامعون فى إحراز صورة نصر زائف لأنفسهم يسوقونها للإسرائيليين.
وهم يعلمون يقيناً أنهم كاذبون ويصدرون الوهم، فلا انتصار تحقق، ولا غزة هُزمت، المقاومة الفلسطينية الباسلة أعطتهم درساً قاسياً فى الصمود والصبر، فبعد دخول الحرب شهرها الرابع، لم تتهاوَ قدراتها ولم تَفل عزيمتها.إن الخلافات بين «نتنياهو» وقادة الجيش ليست وليدة الحرب، لكن هجمات 7 أكتوبر عمّقتها بعد تحميل رئيس الحكومة للمؤسسات الأمنية مسئولية ما جرى، فضلاً عن تدخله فى منع الكثير من الاجتماعات المشتركة بين قادة الأجهزة الأمنية، وتنفيذ بعض السياسات التى أثارت غضبهم.
والأهم أن السابع من أكتوبر والحرب التى تشنها إسرائيل على قطاع غزة، كانت كاشفة للعديد من المعطيات التى تطل برأسها على المشهد السياسى والإقليمى فى هذه الظروف الملتبسة والفوضوية، وباختصار شديد، يمكننا القول إن ضربة 7 أكتوبر تستنبط احتمالين لا ثالث لهما: إما أنها مغامرة غير محسوبة العواقب والنتائج، وبالتالى سيكون من الممكن تطويقها والرد عليها، بما يعزز الوضع القاتم والمعادلات القديمة إلى كانت قائمة قبل الحرب، وهذا ما لم يحدث.
وإما أنها ضربة استراتيجية لم تطل إسرائيل فقط، وإنما طالت كل الرؤية الاستراتيجية الأمريكية الغربية لمستقبل الشرق الأوسط.
وهو المرجح، فتلك الرؤية الاستراتيجية كانت ترتكز على إنشاء ما يشبه «الناتو الإقليمى» بقيادة إسرائيل، لتتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من التفرغ لمواجهة التحديات الروسية التوسعية والتهديدات الصينية المستقبلية، وبدأت ملامح هذه الرؤية بالتشكل فعلياً على الأرض من خلال تنفيذ الخطوة الأولى بإبرام «الاتفاقات الإبراهيمية»، والسعى الأمريكى الحثيث على ضم دول عربية مركزية أخرى لهذه الاتفاقات من خلال استغلال الاحتياجات المحلية، إلى تحالفات إقليمية سواء لتعزيز شرعيتها، أو لدعمها فى خلافات داخلية، أو نزاعات حدودية.
واعتقدت الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن إسرائيل قادرة على احتواء الضربة، ويجب عليها أن تقضى على المقاومة الفلسطينية وحماس خشية أن تشكل ضربة 7 أكتوبر مقدمة لتحول استراتيجى ينهى إمكانية بناء التحالف المنشود.
هذا يفسر التأييد والدعم الأمريكى- الأوروبى اللامحدود لإسرائيل فى الحرب، بل تركت أمريكا لها حرية تحديد السقف الذى يمكن أن تصل إليه فى عدوانها على غزة دون أى اعتبار للأثمان الكارثية التى يدفعها الشعب الفلسطينى من حياته ومستقبله، وغضت النظر عن صورة الغرب القيمية والأخلاقية التى تآكلت مع اتخاذها موقفاً متحيزاً بالكامل للعدوان.
فجاءت مجريات الحرب البرية مخيبة ومحبطة وصاعقة، بقدر ما فعلته عملية 7 أكتوبر، لذا كان لا بد من تدحرج التأثيرات العكسية نحو سياسات أكثر اعتدالاً فى الساحة الأوروبية، وأقل تطرفاً وتشدداً من جهة الولايات المتحدة الأمريكية.
وبدأ يظهر التحول فى مواقفهم من خلال التبدلات السريعة والغموض الذى يكتنف رؤيتهم، سواء للحرب أو لما بعد الحرب، بالاستناد إلى التوقعات الواثقة للولايات المتحدة، بأن إسرائيل قادرة على تفكيك حماس وشل قوة المقاومة وهزيمتها بشكل كامل، وبناء عليه بدأ سيناريو رسم الخطط المتعلقة بمستقبل غزة الخالية من أى شكل من أشكال المقاومة، لكنها بعد مرور شهرين على الحرب البرية، وجدت نفسها مرغمة على التفكير بشكل مغاير.
وإن كانت لم تصل إلى تصور نهائى واضح قابل للتحقق بشأن مستقبل غزة، وينطبق الأمر نفسه على إسرائيل، فإذا كان ما يدفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ مواقفها المتحيزة تلك هى مصالحها الاستراتيجية، فإن هناك سبباً إضافياً لدى إسرائيل يجرها إلى التصعيد العسكرى نابعاً من رغبة عميقة لا يمكن إشباعها إلا بالانتقام من غزة بما فيها من بشر وشجر وحجر.
هذا الوضع أفرز فجوة محدودة، لكنها ملحوظة بين إسرائيل وأوروبا من جهة، وبين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، وما لبثت هذه الفجوة أن تعمقت إلى حد ظهر فيها التحول الأوروبى، من الغطاء الدولى الممنوح لإسرائيل، وانتقل هذا التحول إلى الولايات المتحدة أيضاً التى باتت تشك فى عقلانية ومنطقية وجدوى الحرب الإسرائيلية، ولم تعد تثق فى إمكانية نجاح هذه الحرب بصورتها الجنونية الانتقامية من تحقيق الأهداف، التى طوق بها «نتنياهو» حكومته وجيشه دون دلائل على امتلاكه القدرة الفعلية على تحقيقها.
وبدأ ينتقل الشك والمخاوف تدريجياً من أوروبا إلى الإدارة الأمريكية، ثم إلى إسرائيل نفسها وسرعان ما تحولت المخاوف إلى خلافات وانتقادات علنية متصاعدة، وانتقلت إلى مجلس الحرب الذى بدأ يتصدع تحت وطأة انهيار التوقعات الضخمة مع مرور الوقت، وبدأت تتبلور جبهتين: جبهة الصهيونية الليبرالية التى يمثلها الجيش ومؤسسات الدولة العميقة، وجبهة الصهيونية الدينية التى يشكلها «نتنياهو» بالتحالف مع ريغيف وبن غفير وسموترتش، فيما يمثل «بينى جانتس» رمانة الميزان، والجسر الواصل بين هاتين الجبهتين اللتين يحاول كل طرف تحشيد وتجنيد القوى الحزبية والبشرية الإسرائيلية لصالحه ضد الطرف الآخر.
فالصهيونية الدينية تحاول استغلال الغضب الشعبى الإسرائيلى الأعمى والرغبة فى الانتقام، لكى تدفع الحكومة الإسرائيلية نحو إبادة حقيقية، وتهجير فعلى للفلسطينيين من غزة، والتوسع الاستيطانى العاجل والدموى فى الضفة الغربية، فيما تعمل الصهيونية الليبرالية على تحديد أهداف ممكنة التحقق من الحرب، مع مراعاة التحولات فى الموقف الدولى، خشية أن تجد إسرائيل نفسها وحيدة ومعزولة إذا ما تفاقم الخلاف مع الولايات المتحدة فى المستقبل القريب.