بقلم - جيهان فوزى
بعد تجاوز الحرب على غزة مائتى يوم، فإن الإحصائيات لعدد الشهداء والجرحى والمجازر الإسرائيلية التى يرتكبها جيش الاحتلال فى غزة منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم مفزعة. هذه الأعداد لم يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، فإسرائيل تُمعن فى شنّ الهجمات الممنهجة على جميع أنحاء قطاع غزة، جواً وبراً وبحراً، تستخدم كل أنواع الأسلحة، وكأنها تسابق الزمن فى القضاء على سكان القطاع وإبادتهم، كى تتخلص من هذا العبء الثقيل، الذى يُشكل تهديداً وجودياً على المكون اليهودى الصهيونى المتطرف، لذا يُعرقل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أى إمكانية للتوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق نار دائم، ويلقى باللوم على حركة حماس ويتّهمها بتعطيل أى تقدم فى المفاوضات، بل ويحملها المسئولية عن الإبادة الجماعية، التى يتعرّض لها المواطنون الفلسطينيون فى قطاع غزة!
يدفع نتنياهو بالعربة أمام الحصان فى مفاوضات تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، ويقوض صلاحيات الوفد الإسرائيلى المفاوض بهدف إفشالها، رغم أن حصيلة الشهداء والمفقودين تجاوزت 41183، منهم أكثر من 14778 طفلاً، وعشرة آلاف امرأة، و7000 مفقود، أما الجرحى فقد تجاوز عددهم 77 ألف مصاب، وكان النصيب الأكبر من الضحايا للنساء والأطفال، بما يعادل 72%، فضلاً عن الخسائر الأولية المباشرة لحرب الإبادة على القطاع، التى تُقدر بـ30 مليار دولار، وإلقاء 75 ألف طن من المتفجرات، وتدمير أكثر من 380 ألف وحدة سكنية جزئياً أو كلياً، بالإضافة إلى تدمير المؤسسات الصحية وخروجها عن الخدمة، فضلاً عن تدمير المواقع الأثرية والتراثية، والمؤسسات التعليمية من مدارس ومعاهد وجامعات.
وبعد كل ذلك ما زالت الرؤية الإسرائيلية للحرب وما بعدها غامضة وضبابية، لكن من الواضح أن نتنياهو وبسبب تعقيدات الحرب وصعوبتها يحاول شد زوايا رؤيته لتكون مطاطة تتّسع وتضيق، استناداً إلى ما يمكن تحقيقه من نتائج ملموسة، بما يتيح له ادعاء تحقيق نصر ما فى النهاية. لقد ورّطت الحكومة الإسرائيلية نفسها فى تعهدات تبين أنها غير قابلة للتحقّق، فلا الجيش تمكن من تفكيك فصائل المقاومة، ولا الأجهزة الأمنية استطاعت خلق بدائل من أهل غزة لإدارة شئون القطاع، ولا الدبلوماسية تمكنت من إقناع دول أخرى بتشكيل قوة أمنية دولية مشتركة لإدارة قطاع غزة بعد الحرب، ولا المفاوضات أدت إلى تحرير أى أسير إسرائيلى بعد الصفقة اليتيمة الأولى.
فى اليوم التالى لهجوم 7 أكتوبر كانت الحكومة الإسرائيلية قد وضعت لنفسها أهدافاً واضحة، أعلنها نتنياهو مرات كثيرة، وكانت تبدى ثباتاً لا يتزعزع لتحقيق تلك الأهداف، لكن مجرى العمليات الميدانية صدمها بواقع لم تألفه وترفض الاعتراف به، وبدلاً من إعادة النظر وتقليص تلك الأهداف إلى الحدود الممكنة، لجأت إلى التمويه والتضليل وتعديل لغتها وإعادة جدولة أهدافها بطريقة تكشف عن عجز فاضح فى التكيّف مع الحقائق المهينة لها فى الميدان. وبمقارنة تصريحات أعضاء مجلس الحرب ما بين أكتوبر الماضى واليوم، سنلاحظ الفرق الجوهرى بين هذه وتلك، وحتى فى المقارنة ما بين تصريحات كل من أعضاء مجلس الحرب فى ما بينهم، ستتضح الفجوات الكبيرة التى أملتها عليهم وقائع الحرب، فمثلاً يميل جانتس وإيزنكوت إلى اعتبار تحرير الرهائن معياراً للنجاح أو الفشل فى هذه الحرب، بمعنى أنهم سيعتبرون النجاح فى تحرير الرهائن عبر المفاوضات انتصاراً لإسرائيل يبرر وقفاً دائماً لإطلاق النار، ويشاركهم فى هذا الرأى رئيسا جهازى الموساد والشاباك اللذين يشكلان معاً المصدر الأهم لاتهام نتنياهو بعرقلة المفاوضات، ومنع الوفد المفاوض من التصرّف بصلاحيات واسعة لتحقيق النتائج المرجوة، أما نتنياهو ومعسكر اليمين المتطرف فما زال يعتبر أن الضغط العسكرى سوف يُرغم حماس فى النهاية على القبول بالشروط الإسرائيلية، وهو فى الحقيقة يؤسّس هذا الاعتقاد على وهم لا يتكئ على أى مؤشرات حقيقية أو دلائل جدية، لأن تقديرات أغلب الأجهزة الاستخبارية الدولية، وفى مقدمتها الأمريكية، تقول عكس ذلك، وتؤكد أن حماس ليست فى وضع يمكن فيه إرغامها على قبول ما سبق أن رفضته.
أمام هذا الانسداد فى الأفق السياسى يحاول نتنياهو بذل كل الجهد العسكرى الممكن لتحقيق إنجاز ما قبل أن يضطر إلى تعديل أهداف الحرب، لأن هذا الخيار الأخير يُشكل مجازفة خطيرة لخسارة الرأى العام الإسرائيلى الذى يؤيده، ويصدق ادعاءاته، وما بين تلك الرغبة وهذه الخشية ضاعت الرؤية الإسرائيلية، وأصبح من الصعب على نتنياهو أن يصارح شعبه بما يجرى، وبدلاً من ذلك بات يطلق تصريحات غامضة لا تعكس حقيقة ما آلت إليه الحرب من نتائج فعلية، وبدءاً من يناير هذا العام سادت الفوضى والغموض والضبابية على لغة الحرب الإسرائيلية، حتى أصبح من الممكن القول إنها باتت حرباً بلا رؤية واضحة أو أهداف قابلة للتحقق. إنها حرب مؤجّلة الرؤية والأهداف.