عندما تفتح غزة ذراعيها لشمس الحرية، وتنقضى المحرقة وحرب الإبادة الجماعية التى تشنها إسرائيل على كل موطئ قدم فيها، وتنقشع غمامة الظلام التى أنهكت الروح وأوهنت الجسد، سيفتح الفلسطينى فى غزة دفتر حياته الجديد ليقرأ منه ما حدث له فى الشهور الماضية؟ وماذا اكتسب من خبرات أشبه بالمعجزات التى أضيفت إلى خبراته السابقة وغيرت ملامحها وبدلت تفاصيلها؟ وكيف سيواصل من حيث انتهى فى ظل تلك المكتسبات الجديدة والقاسية على النفس والجسد؟ سيكتب أولاً سيرة ذاتية «C V» بطعم الدم ورائحة الحرب بعد انتهائها، وهى مختلفة تماماً عن سيرته قبل الحرب، سيسجل فيها خلاصة المعاناة التى عايشها بكل ما تحمل من أسى وقسوة ومرارة. يرى الفلسطينيون أنهم الأحق والأجدر بالحياة التى يستحقونها ضمن تلك السيرة الذاتية الجديدة والتى أنقلها كما جاءت على لسانهم:
- القدرة على العمل تحت الضغط والقصف والقتل أيضاً.
- خبير فى تعبئة وترشيد استهلاك المياه والموارد المتاحة لأقصى درجة.
- محترف بالتعامل مع النار والطهى على الحطب.
- القدرة على الوقوف بالساعات فى الطوابير الطويلة.
- القدرة على محاولة الاتصال لعشرات المرات دون جدوى.
- التأقلم مع العيش من دون كهرباء.
- القدرة على العيش منعزلاً عن الاتصال بالعالم الخارجى لأيام قد تمتد لأسابيع.
- القدرة على العيش فى بيئة غير صالحة للحياة.
- القدرة على انتشال جثامين الشهداء وجثث الأطفال المتشظية والمتطايرة دون أن ترتجف أوصاله، والحفر البدائى للبحث عن جثامين آخرين تحت الأنقاض.
- القدرة على المشى مسافات طويلة جداً دون أن يشتكى أو يشعر بالألم.
- القدرة على الصمود لعدة أيام من دون أكل باحثاً فى خشاش الأرض عما يسد الرمق كى لا يفقد حياته.
- النزوح من مكان إلى آخر بوسائل نقل بدائية يحمل على ظهره بعض الأمتعة التى أنقذها من تحت الركام، يلاحقه الموت وسط القصف المتواصل وزخات الرصاص والقذائف المدفعية وصواريخ الطائرات التى لا تهدأ أبداً.
يا لها من سيرة ذاتية مثيرة للتأمل، والبحث والدراسة، تفاصيلها مفعمة بالتحدى والمثابرة والقدرة على التكيف فى أحلك الظروف وأشدها قسوة وبدائية، لا أعتقد أن شعباً آخر يستطيع تحملها، أو القدرة على الصمود والاستمرار فيها، لكن أهل غزة استطاعوا واستمروا وسيستمرون يحدوهم الأمل فى غد أفضل ستشرق فيه شمس الحرية لا محالة، وعلى وقع هذا التحدى يستمدون الصبر والقوة والصلابة والعناد أيضاً من رحم المعاناة والتضحية بالغالى والنفيس.
بينهم وبين أنفسهم يتساءلون كيف سيكون شكل قطاع غزة بعد الحرب؟ ورغم أنهم يعرفون الإجابة مسبقاً، فإنهم لم يفقدوا الأمل فى عودته عامراً معمراً بهم ولهم مرة أخرى!. غنى عن القول أن هذه البقعة الصغيرة أصبحت مأوى للأشباح، وتحولت إلى منطقة منكوبة لا تصلح للعيش، وأصبح سكانها مشردين، لا يستطيعون التعرف على بيوتهم ولا شوارعهم، هذه البقعة الصغيرة من العالم تحتاج لسنوات لبث الحياة فيها، برنامج الإعمار يحتاج إلى سنوات ومليارات من الدولارات كى تنهض من تحت الركام. والأهم من ذلك ترميم النفوس المحطمة المدمرة التى سكنت الأجساد الهزيلة، وحولتها إلى أنفاس تدخل وتخرج فقط لتشى بأنها ما زالت حية، لكن الأثر الخالد فى تلك النفس التى انشقت من جحيم الموت، لن تنسى ولن تغفر، فقط ستتجاهل هذا الجحيم الذى عانته ولم تعرف البشرية مثيلاً له فى العصر الحديث، كى تقوى على الصمود، وتستطيع التعافى من محنة الفقد، والتماهى مع مشاهد لملمة الأشلاء المتناثرة ودفنها فى مقابر جماعية والتى باتت مشهداً يومياً اعتادت عليه، لا يكاد يفارق العين، فأصبح الموت مع الوقت صديقاً مقرباً لكل نفس تنبض بالحياة، لا تبالى به ولا تحسب له حساباً.
فلا فرق بين الموت جوعاً والموت بالقصف أو القنص، الموت واحد والنهاية محتومة. كيف استطاع أهل غزة تحمل كل هذا الوجع والمعاناة، والتأقلم مع كل مسببات الموت وقهره طوال ثمانية أشهر دون أن تنهار عزيمتهم؟! ينهضون من تحت الركام مغموسين بغبار البيوت التى دمرت فوق رؤوسهم، يبحثون عن الأحياء ويسترون أجساد الأموات ويواصلون حياتهم البائسة فى تحدٍّ يندر مثله، فقد جبلوا على الصمود والتحدى واستئناف المسيرة دون أن يسكنهم اليأس أو تتسلل الهزيمة إلى عقولهم، أو يسلبهم الاحتلال الشىء الوحيد الذى لا يقوى أحد على سلبه منهم وهو «التمسك بالأرض والحق والحرية».