بقلم - جيهان فوزى
يرى العقلاء فى إسرائيل، من بينهم مسئولون سياسيون ومحللون عسكريون، أن إسرائيل أصبحت عالقة على كل الجبهات، وهى كذلك منذ أشهر، وربما حان الوقت لتكتسح جبهة المعارضة على نطاق واسع الحكومة، وسط موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات والمظاهرات فى الشارع الإسرائيلى المندّدة بسياسة الحكومة تجاه الحرب على غزة وأدائها فى التعامل مع ملف الأسرى. لم يكن أمام بينى جانتس زعيم حزب معسكر الدولة، ولا جادى آيزنكوت، رئيس أركان الجيش الإسرائيلى السابق والعضو فى حكومة الطوارئ، إلا الاستقالة، بعد مشوار قطعاه فى مجلس الحرب متخم بالجدل والمعارضة، وعدم الرضا عن سياسات نتنياهو واليمين الصهيونى المتطرف فى التعامل مع الحرب.
لقد لعب جانتس منذ البداية دوراً بارزاً فى قرارين حاسمين فى الحرب على غزة، ففى الأسبوع الأول من توليه منصبه، وقف إلى جانب نتنياهو بحزم فى معارضة مطالب وزير الدفاع يوآف جالانت، وجنرالات الجيش، بتنفيذ هجمات استباقية على حزب الله فى لبنان. وبعد شهرين كان جانتس وجالانت إلى جانب جادى آيزنكوت، هم الذين ضغطوا على نتنياهو لقبول وقف إطلاق النار لمدة أسبوع مع حماس، والذى ضمن إطلاق سراح 105 من الأسرى. لكن لماذا استقال جانتس وآيزنكوت من مجلس الحرب رغم دورهما المحورى، ليتركا نتنياهو وجالانت وحيدين فى مواجهة بن جافير وسموتريتش؟
ربما لأنهما توصلا إلى قناعة بأن نتنياهو يستخدمهما فى مواجهة بن جافير وسموتريتش كحائط صد، يتفادى من خلاله انتقادات اليمين المتطرف لعدم تصعيد الحرب وتوسيع دائرة المواجهة، سواء على الحدود الشمالية أو فى غلاف غزة. لكن يبقى السؤال الأهم: هل ستُجبر مغادرة جانتس وآيزنكوت بنيامين نتنياهو على اتخاذ القرار الصعب، وهو وقف إطلاق النار؟
لقد رسمت هذه الاستقالة ثلاثة احتمالات متعادلة، أولها أن نتنياهو سيتخلص بهذه الاستقالة من المعارضة العنيدة فى مجلس الحرب، وسيصبح قادراً على اتخاذ قراراته المتطرّفة محافظاً بذلك على ائتلافه البرلمانى وتماسك حكومته، وهو ما قد يغريه بالتشبّث بموقفه الرافض لوقف إطلاق النار النهائى والدائم أياً كان الثمن. وثانى تلك الاحتمالات أن تفتح هذه الاستقالة الباب على اتساعه أمام تشكيل ائتلاف معارض يستند إلى تحول جاد فى الرأى العام الإسرائيلى الذى بات مستعداً أكثر من أى وقت مضى لقبول فكرة أن النصر المطلق هو وهم وخديعة يحاول نتنياهو من خلالهما إطالة أمد الحرب، ما يعنى إطالة عمره السياسى. وثالثها أن تتمكن الولايات المتحدة بضغوط جدية ومباشرة من إرغام نتنياهو على قبول تصورها للحرب وما بعدها، سواء فى غزة أو فى الشمال.
وفيما يبدو فإن الحكومة الإسرائيلية أصبحت الآن جزءاً من معادلة صفرية لا يمكن فيها تحقيق مكسب على صعيد ما دون خسارة معادلة على الصعيد المقابل، بمعنى أن القبول بتماسك الائتلاف اليمينى والحفاظ على الحكومة إذا كان مكسباً، فسيُقابل هذا خسارة محتمة فى علاقة الحكومة بالرأى العام المحلى والدولى، وأيضاً إذا نجحت واشنطن فى إقناع نتنياهو بالقبول بسياستها، فسيقابل هذا خسارة مؤكدة لنتنياهو فى علاقته مع اليمين المتشدّد، مما قد يُهدّد الائتلاف الحكومى بالتفكك، ويقودنا هذا الاستنتاج القسرى إلى أن كل الخيارات أمام نتنياهو باتت غير أكيدة وعلى درجة كبيرة من الشك فى قدرتها على تجميد الخسارة الاستراتيجية.
كان جانتس ذكياً فى تبريره للانسحاب من حكومة الحرب، فقد أسّس موقفه على استنتاج واضح بأن الحرب لن تُحقق أهدافها، وأن الحكومة فشلت فى اتخاذ القرارات الصائبة من الناحية الاستراتيجية تحت وطأة القرارات السياسية قصيرة النظر، التى اتخذها نتنياهو على مدار الأشهر الثمانية الماضية، وكذلك فعل آيزنكوت الذى شكّك فى إمكانية الانتصار فى هذه الحرب، ونبّه إلى ضرورة التوقف عن الانسياق وراء أضاليل نتنياهو ومزاعمه التى لم تحقّق إنجازاً واحداً مما وعد به الإسرائيليين.
فى كل الأحوال استقبلت المعارضة الإسرائيلية، على اختلاف مكوناتها، تلك الاستقالة بارتياح شديد، وبدأت على الفور مشاورات جادة لتشكيل جبهة ائتلافية مضادة مؤسسة على أن نتنياهو وإن كان ما زال يحتفظ بالشرعية البرلمانية، فإنه فقد الشرعية بمعناها الأوسع، لأنه بات فى خط مضاد، سواء لتوجّهات الشارع الإسرائيلى أو للسياسات التى بدأت بالتبلور لدى حلفاء إسرائيل على المستوى الدولى، والتى أصبحت تنظر بارتياب، وبكثير من الحذر إلى ما تعتبره سلوكاً إسرائيلياً مغامراً وطائشاً، يعرّض مصالح الغرب للخطر فى هذا الجزء الحساس من العالم.
وطالما أن خيارات نتنياهو ضاقت إلى هذا الحد، فقد بات مجبراً على التفكير ملياً فى ما تعرضه واشنطن، وبالتحديد ما جاء فى خطاب بايدن، الذى منح الأولوية القصوى لوقف إطلاق النار، ودخول المساعدات، وتبادل الأسرى. ويحاول نتنياهو فى هذا الصدد أن يبقى موقفه مرناً وغامضاً فى الوقت نفسه، فهو يقبل الصفقة، لكنه يرفض منح أى ضمانات بالوقف الكامل والنهائى والانسحاب الشامل من غزة، بمعنى أنه يريد أن تكون المفاوضات التى ستتم خلال المرحلة الأولى من تنفيذ الصفقة بعد سريانها العامل الحاسم فى تقرير مصير الحرب فى المرحلتين الثانية والثالثة من الاتفاق.
لذا تفهم الإدارة الأمريكية مخاوف نتنياهو، لكنها تبدو على قناعة أكيدة بأن توقف الحرب وبدء تنفيذ الاتفاق فى مرحلته الأولى، سيجعل العودة إليها أمراً صعباً للغاية، ربما بسبب ما تعتقد واشنطن أو ما تتوقعه من تبدّلات جوهرية فى الخارطة السياسية الإسرائيلية ما إن تتوقف الحرب.