بقلم - جيهان فوزى
أكثر من 400 ألف فلسطينى فى المستوى الخامس من الجوع (أى مرحلة المجاعة)، ونحو مليون مواطن فى المستوى الرابع (أى فى حالة الطوارئ). الجوع ينهش أجساد الفلسطينيين فى قطاع غزة، ووصل إلى حافة المجاعة فى شمال غزة، والاستغاثات لا تنقطع، لكن لا حياة لمن تنادى! المنظمات الأممية والإنسانية تقف عاجزة ولا تملك سوى التصريحات التحذيرية من انهيار حتمى لا محالة سيضرب عصب حياة سكان غزة. كيف للعالم أن يقف عاجزاً أمام هذه الاستغاثات ولا يحرك ساكناً أمام غطرسة الاحتلال الإسرائيلى الغاشم الذى يتعمّد تجويع القطاع كى يصل إلى استحالة الحياة فيه؟ إن هذه الظروف الكارثية التى هى من صُنع الإنسان، والتى يمكن التنبؤ بها، ويمكن تجنّبها، تعنى أن الأطفال والأسر فى قطاع غزة يواجهون الآن العنف من الجو، والحرمان من الأرض، مع احتمال أن الأسوأ لم يأتِ بعد.
تقول القاعدة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة التى اعتمدت فى أغسطس عام 1949 لحماية المدنيين أثناء الحروب: «يسمح أطراف النزاع بمرور مواد الإغاثة الإنسانية للمدنيين المحتاجين إليها، وتسهل مرورها بسرعة ودون عرقلة، وتقدم الإغاثة دون تحيز أو أى تمييز مجحف مع احتفاظ الأطراف بحق مراقبتها». لكن مع إسرائيل كل شىء يتغير ويُباح!. ومع تفاقم وتدهور الأوضاع فى غزة، خرجت نائبة الرئيس الأمريكى «كاميلا هاريس» عن صمتها لتقول إن ما يحدث فى غزة من مجاعة شىء مروع! فيما انضمت الولايات المتحدة مؤخراً إلى الدول التى تلقى المساعدات على غزة جواً. وبقدر ما رحب البعض بالخطوة الأمريكية الأخيرة ببدء إنزال المساعدات جواً على سكان غزة، بقدر ما أثارت الخطوة تساؤلات حول الموقف الأمريكى، وما وصفه مراقبون كثيرون بالعجز الأمريكى أمام إسرائيل، فى ما يتعلق بالحرب الدائرة فى غزة. واشنطن التى انضمت مطلع الأسبوع إلى عمليات الإسقاط الجوى للمساعدات على سكان غزة، التى نفّذتها سابقاً دول عربية مثل الأردن ومصر والإمارات، لم تلقَ الاستحسان، فقد أثارت الخطوة الأمريكية تساؤلات حول لماذا لجأت واشنطن إلى هذا الخيار؟ وهل يعنى لجوؤها إلى هذا الخيار أنها باتت لا تملك أى أوراق للضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو من أجل السماح بدخول شاحنات المساعدات برياً؟ وهل يعنى بدء واشنطن فى إسقاط المساعدات جواً لسكان غزة، أنها أصبحت عاجزة عن إجبار إسرائيل على وقف الحرب الدائرة هناك؟
عندما ننتقل من الوجه الإنسانى لهذه الكارثة إلى الوجه السياسى المحيط بها، ستتكشف بسرعة الأسباب الحقيقية للتجويع الممنهج ضد سكان غزة، وسيقودنا هذا إلى الحديث عن حلف متنوع بين مخطط ومتواطئ وصامت تقوده الولايات المتحدة، نحو هدف واضح هو إرغام المقاومة الفلسطينية على القبول بالشروط المطروحة لوقف مؤقت لإطلاق النار، بما يعفى الإدارة الأمريكية من وطأة السخط الدولى المتعاظم، على سياستها المفرطة فى دعم الجرائم الإسرائيلية، حيث لا تنفصل سياسة التجويع عن الحرب الضارية التى تستهدف المدنيين الأبرياء وحتى الصحفيين وعمال الإغاثة المنتدبين من منظمات دولية مشهود لها بالنزاهة والحياد، مما يعنى أن الولايات المتحدة الأمريكية بصمتها المريب إزاء سياسة التجويع إنما تكمل ما بدأته إسرائيل من إبادة فعلية للشعب الفلسطينى، ولا تعفيها تلك المساعدات الهزيلة المتساقطة من الجو، من مسئوليتها الكاملة عن هذه الحرب وتبعاتها السياسية والإنسانية. ومن المؤكد أن الموقع الملتبس للولايات المتحدة فى الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى، قد بدأ بالتشكل على نحو جديد لدى الرأى العام الفلسطينى، الذى بات يميل تدريجياً نحو اعتبار الولايات المتحدة عدواً صريحاً للشعب الفلسطينى، وحليفاً أساسياً وداعماً أولاً للاحتلال الإسرائيلى، وهذا لا يمكن أى إدارة أمريكية فى المستقبل من الادعاء بالحياد، ومحاولة لعب دور الوسيط فى أى مشروع سياسى قادم، وأن المصلحة الحقيقية للشعب الفلسطينى تتطلب أولاً وقبل كل شىء استبعاد واشنطن من معادلة السلم والحرب فى المنطقة، وإلغاء كل الأطر التى كانت قد تأسست بناءً على إعلان المبادئ فى أوسلو، سواء كانت اللجنة الرباعية أو المفاوضات الثنائية أو المتعدّدة أو اتفاق باريس، أو خطط تطوير أداء السلطة الفلسطينية والأجهزة الفلسطينية تحديداً، وبدون ذلك فإن هذا الخلل الجوهرى فى المفاهيم سيوصل الشعب الفلسطينى دائماً إلى طريق مسدود.
إن صمت الولايات المتحدة على الحرب شىء، وصمتها على سياسة التجويع هو شىء آخر مختلف تماماً، يعكس المدى الذى وصلت إليه إدارة بايدن فى العداء للفلسطينيين، والتجرّد من أدنى وأبسط المشاعر الإنسانية، أما ما يتعلق بإسقاط 36 ألف وجبة من الجو، فهذا ليس سوى استخفاف بعقول الأمريكيين، الذين استيقظوا فجأة على حقيقة سواد سياسة حكومتهم، وانحيازها الفاضح إلى مرتكبى جرائم الإبادة والتجويع فى غزة. فالشعب الفلسطينى مثل أى شعب، ليس شعباً من الأبطال، ولا هو شعب من الخانعين، إنه شعب مؤمن بقضيته ومستعد للتضحية من أجل أرضه ومستقبله، وهو لا يفهم ولا يستوعب لماذا قد يدفع أطفاله ثمن هذه الحرب دماً وجوعاً وبرداً؟! دون أن يكون له الحق فى أن يطلب الحماية من المنظمات الإنسانية التى أنشأها الغرب وفقاً لقوانين وضعها بنفسه، لحماية الأبرياء فى زمن الحرب، وإذا كان هناك من يعتقد أن هذا الإذلال سيقود الفلسطينيين فعلاً نحو الخضوع لإرادة الاحتلال فهو واهم، وإن كان هناك من عنده شك فى ذلك، فلينظر إلى النكبات والحروب والجرائم التى ارتكبها الاحتلال منذ تأسيس دولته عام 1948 إلى يومنا هذا، ولينظر بالمقابل إلى وتيرة المقاومة الفلسطينية المتصاعدة، وصولاً إلى تلك الضربة المميتة يوم 7 أكتوبر، ليستنتج من ذلك ما يشاء.