من يشاهد الدمار الكارثى الذى لحق قطاع غزة, لا يعتقد اطلاقا أنه يمكن أن يستأنف الحياة, لكن أهله لم يفقدوا الأمل, ولم تثن عزيمة الصمود من العودة الى منازلهم المدمرة, رغم الالم وخسارة الفقد فى الارواح والعتاد, وكل المقومات القابلة للحياة والاستمرار, الجوع والمرض ينهش أجسادهم الهزيلة التى أنهكتها الحرب لكنهم مصممون على رفض النزوح والتهجير.
ومع بوادر صفقة وشيكة لتبادل الأسرى, بدأت ملامحها تلوح فى الافق رغم التكتم الاسرائيلى, ونفى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لاعتبارات شخصية ستهز عرش وجوده على رأس السلطة, فضلا عن إرضاء اليمين المتطرف الذى يريد استمرار الحرب, فإن الرتوش الاخيرة من تفاصيل الصفقة فى انتظار رد حركة حماس, وبطبيعة الحال فإن هذه الصفقة يشملها بالتبعية وقف لاطلاق النار, بفعل الضغوط الامريكية, فقد أيقنت الولايات المتحدة والدول الداعمة لاسرائيل أن الحرب فشلت فى تحقيق أهدافها, بعد مرور 120 يوما على الحرب, لم تنجح فيها اسرائيل إلا فى قتل المدنيين وارتكاب الاف المجازر, وهدم البيوت وتدمير معالم الأحياء والمدن بالكامل, فى محاولة يائسة لتهجير السكان التى أخفقت فى تنفيذها.
وبدا واضحاً أن الوقت قد حان لاتخاذ موقف جدى وملزم من الصراع القائم لإنهاء الاحتلال, ولأول مرة يصرح مسئول امريكى بحجم الرئيس جو بايدن بوجوب حل القضية الفلسطينية, والاقرار بحل الدولتين, متزامنا مع تصريحات لرئيس الوزراء البريطانى ريشى سوناك تصب فى نفس الاتجاه, وهو الأمر الذى لم يحدث من قبل.
ما يمكن استنتاجه من المصادر السياسية والاعلامية الامريكية والاسرائيلية والقطرية أنه قد تم التوافق على الاطار العام للصفقة المقترحة, والذى يشتمل على ثلاث مراحل, تبدأ بهدنة ثم انسحاب وأخيرا وقف نهائى لاطلاق النار, وعلى مدى هذه المراحل, يتم تبادل الأسرى والمحتجزين, ووضع خطوط تشكيل ملامح مرحلة ما بعد الحرب, من حيث المساعدات وإعادة الاعمار, وفك الحصار, والشروع فى تحديد الأفق السياسى لمستقبل الشعب الفلسطينى, بما يمكنه من إنهاء الاحتلال وبناء دولته المستقلة.قد يبدو هذا التصور فيه قدر كبير من التفاؤل, مقابل الواقع اليومى الدامى الذى يعيشه الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة والقدس على حد سواء, لكن وصول الحرب إلى النقطة التى انتهت إليها الآن, لا تترك مساحة لبناء رأى يستند الى إحساس شخصى بالتفاؤل أو التشاؤم, وإذا كان هذا ممكناً فى المراحل الأولى من الحرب, فإنه الآن أصبح غير ذى قيمة, باعتبار أن وقائع الحرب فرضت نفسها, وحددت ما يليها بالحقائق التى أفضت إليها.
نحن نشاهد ونسمع ونقرأ خريطة الوضع الحالى بصورة شديدة الوضوح, فقد انسحب جيش الاحتلال الاسرائيلى من شمال غزة بالكامل دون تحقيق ما حدده لنفسه من أهداف, وتنقل كل القنوات الاخبارية العالمية من غزة مشاهد العودة الصريحة لمقاتلى حماس إلى مواقعهم وسيطرتهم المدنية على الشمال, وحدث الأمر نفسه فى مدينة غزة وضواحيها, ثم تكرر الأمر نفسه فى المنطقة الوسطى التى شهدت انسحابا كاملا لجيش الاحتلال, بإستثناء منطقة محدودة فى الجانب الغربى منها, أما فى خانيونس جنوب غزة فتزداد المعركة شراسة, خاصة بعد أن أجبرت المقاومة القوات الاسرائيلية على الانسحاب من محيط مستشفى الأمل. وطالما أن جيش الاحتلال لم يحقق أيا من أهدافه فى الشمال وغزة والوسط, فإنه من غير المرجح على الإطلاق أن يحقق نتائج مغايرة فى خانيونس, وسيجبر على الانسحاب خلال الأيام القليلة المقبلة, إن البيئة السياسية الاسرائيلية المتلهفة للانقضاض على نتنياهو, تمنعه من إتخاذ موقف صريح بشأن النتائج الحقيقية للحرب, وليس أمامه من خيار سوى الانسحاب الفعلى من مدن القطاع مع استمرار حالة الاشتباك عن بعد, بالقصف الجوى والمدفعى والبحرى على المدن, كوسيلة لابتزاز المقاومة, وإرغامها على قبول صفقة لا ترضاها.
لقد وصلت اسرائيل إلى نقطة لا يمكنها فيها اتخاذ أى قرار مهما كانت طبيعة ذلك القرار, لأن الثمن سيكون باهظاً, وسيؤدى إلى تغييرات عميقة ومفاجئة تخشاها الحكومة والمعارضة وسائر الأحزاب السياسية الاسرائيلية على اختلاف توجهاتها. فكان لا بد أن تبادر واشنطن إلى الضغط على نتنياهو وإجباره على إتخاذ القرار.
الولايات المتحدة لن تترك هذه الفرصة تذهب سدى, لذا سارعت إلى رسم الخطوط العامة للصفقة بالتعاون مع قطر ومصر, بينما تولت هى الضغط على نتنياهو للقبول بها, وفى المقابل مارست قطر والقاهرة ضغوطاً مشابهة لاقناع حماس بالموافقة على المسودة الامريكية للصفقة, كإطار عام يمكن البناء عليه, وهو ما فاجأ العالم خلال اليومين الماضيين.
قد لا تظهر النتائج النهائية لهذه الجهود الحثيثة خلال أيام, لكن من المؤكد أنها ستثمر إتفاق ما خلال أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر.
وما حاول نتنياهو تفاديه بإطالته أمد الحرب, سيسقط على كتفيه عبئاً سياسياً وأخلاقياً, بما سيفضى حتماً إلى مغادرته الساحة السياسية الاسرائيلية بلا رجعة.