بقلم - جيهان فوزى
فى كل خطاب أو تصريح له يحاول رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو الإيحاء للعالم كله بأن هجوماً إسرائيلياً واسعاً على جنوب لبنان قد أصبح أمراً وشيكاً ومحتماً، ويرفق تهديداته تلك بأوامر وتوجيهات للحكومة الإسرائيلية والسلطات المحلية فى الشمال، وهيئة أركان الجيش الإسرائيلى للاستعداد، كل فيما يخصه للحرب الوشيكة.
يميل البعض إلى الاعتقاد بأن «نتنياهو» لا يناور بل هو يهيئ حكومته وجيشه للتعامل مع الآثار المدمرة لمثل هذه الحرب، ويستند أصحاب هذا الرأى فى توقعاتهم المتشائمة إلى بعض المخاوف الجادة لدى اليمين الإسرائيلى مما يمكن أن يحدث فى حال أحجمت إسرائيل عن شن مثل هذه الحرب، وهم يعنون بذلك الاعتراف الفعلى من إسرائيل بانتهاء قدرة الردع لديها والإقرار بأن حزب الله قد بات مسيطراً على المفاصل الحياتية والأمنية فى شمال إسرائيل كله، إضافة إلى أن هذا سيعزز النوايا الهجومية لإيران وحلفائها فى المنطقة، كما سيسهم فى تحريك الوضع الخامد فى الضفة الغربية، ما يضع الكيان الصهيونى برمته أمام أخطار مستقبلية جسيمة. لكن هناك من يرى عكس ذلك ويعتقد أن نتنياهو يحاول ابتزاز العالم كله للضغط على إيران وحزب الله من أجل وقف التصعيد دون أن يوقع بلاده فى أتون حرب أخرى غير مضمونة النتائج، وهناك اعتقاد بأنه لا يمكن لإسرائيل الانتقال من نصف حرب إلى حرب أخرى، ومن غير المتوقع أن تكون لها نهاية مختلفة.
ما بين هذين الرأيين تبدو إسرائيل فى وضع محير ومتقلب، لا خيارات أكيدة فيه، ولا مستقبل واضح المعالم، أياً كانت الخيارات التى ستتبعها الحكومة الإسرائيلية، ولعل هذا يناسب نتنياهو شخصياً، من حيث إن الدفع باتجاه حرب فى الشمال سيخلصه من ورطة غزة، ويمد فى عمره السياسى قليلاً، لكن هذا الاحتمال يترافق مع احتمال معاكس هو الإنهاك الواضح فى صفوف الجيش ونقص معداته وأسلحته وتعاظم المعارضة الداخلية وتوسعها ومفاقمة غضبها تجاه ما يعتبرونه تضحية بمصالح إسرائيل الاستراتيجية، من أجل كسب سياسى صغير، وإذا ما أضفنا إلى ذلك أن إدارة بايدن تعتبر أن نشوب حرب جديدة قبل الانتخابات الأمريكية يعد انهياراً فى أحد أركان حملة بايدن الانتخابية التى تستند إلى نجاح سياسة احتواء إيران ومنعها من تطوير سلاح نووى، فالحرب إذا اتسعت ستؤدى حتماً إلى إرغام الولايات المتحدة على الدفع بكل طاقتها لدعم إسرائيل، ما يؤدى إلى تردٍ واسع من جانب إيران وحلفائها وربما يقود هذا إلى مواجهة مباشرة مع إيران تكون نتيجتها الحتمية أن تسارع طهران إلى تطوير برنامجها النووى ورفع مستوى التخصيب إلى ما يزيد على 90%، وهذا يعنى أن محاولات الاحتواء تكون قد فشلت بالكامل، وهو ما يعنى أن بايدن سيفقد كل أمل له فى الفوز بفترة رئاسية ثانية. هذا فضلاً عن أن رفع مستوى الاشتباك الأمريكى فى نزاعات الشرق الأوسط سيمثل فرصة مناسبة لروسيا والصين لتحقيق ما يهدف إليه البلدان من توسع على المستوى العالمى، وبمعنى آخر فإن الولايات المتحدة ستواجه خطر تقلبات دولية عنيفة فى وقت أبكر مما كانت تعتقد.
نتحدث هنا عن منطقة حساسة للغاية، وهى غير محسومة الولاء بقدر ما هى ساحة صراع مكتوم بين الشرق والغرب، فإلى ما قبل تعاظم الدور الإيرانى فى أعقاب حرب الخليج الثانية، كانت منطقة الشرق الأوسط محسومة الولاء للغرب دون منازع، لكن الدخول الإيرانى الهادئ والمتسلل فتح الطريق أمام دخول روسى وصينى اقتصادى وأمنى غيّر من شكل المنطقة ورسم خرائط جديدة لولاءاتها الحالية والمستقبلية.
تعتمد كل هذه الاحتمالات على ما إذا كان نتنياهو يريد فعلاً شن الحرب على لبنان، وما سيكون عليه حجم الهجوم المرتقب ومساحته، وآثاره التدميرية، ولعل أفضل خيارات نتنياهو فى حال اتخذ مثل هذا القرار فعلاً أن يبقى عدوانه محصوراً بين الخط الأزرق الذى حدده القرار 1701 ونهر الليطانى، لأنه بذلك سيكون قد أفهم العالم أنه لا يهدف من تلك الحرب إلا لإبعاد قوات حزب الله شمالاً كى تبقى مستوطناته آمنة وبعيدة عن التهديد، ومثل هذا الأمر سيرغم حزب الله بطريقة أو بأخرى على تقليص المساحة التى سيستهدفها فى إسرائيل بصواريخه ومسيّراته، أما فى حال توسعت الحرب إلى نطاق جغرافى أبعد فإن الحرب ستؤول إلى صراع دموى لا يمكن التحكم فيه ولا التنبؤ بنتائجه، بل قد يكون أيضاً بمثابة قرار مصيرى مرتهن بالحظ، أو بتبدلات مفاجئة وغير متوقعة إطلاقاً على خريطة السيناريوهات المحتملة، ومن الطبيعى أن تكون الهزيمة واحدة من تلك النتائج. إنه إذن قرار شديد الخطورة ويحاول الكثير من العقلاء فى إسرائيل إثناء نتنياهو عنه، وتحذيره من أن هذه المغامرة لن تؤثر على إسرائيل ومستقبلها فقط، بل ستمتد آثارها لتشمل الحلفاء الأقرب لإسرائيل، ما يفرض على الحكومة الإسرائيلية أن تستثير حلفاءها قبل التورط فى حرب من هذا النوع، ولا أحد يعرف على وجه اليقين ما إذا كان نتنياهو سيتصف ببعض الحكمة كى يستجيب لتلك التحذيرات والنصائح، أم أنه سيبقى منقاداً إلى أسطورة الجيش الذى لا يقهر، التى فقدت مصداقيتها وواقعيتها منذ وقت طويل؟!