بقلم - جيهان فوزى
منذ اللحظة الأولى لإعلان الحرب الإسرائيلية على غزة فى السابع من أكتوبر العام الماضى، سارعت الولايات المتحدة بإظهار الالتزام العميق لحليفتها إسرائيل، وقدمت دعماً لا متناهى سياسياً وعسكرياً وأمنياً، وأعلنت هى وحلفاؤها الغربيون أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها بالطريقة التى تراها ضد أى تهديدات. لقد استندت السياسة الأمريكية لتحقيق ذلك على عدة أهداف رئيسية، يأتى على رأسها: التركيز على مصالح الأمن القومى الأمريكى المعرضة للخطر فى الشرق الأوسط، وقد وضعت الولايات المتحدة مجموعة من الاعتبارات سعت إلى الالتزام بها فى إطار دعمها العميق لإسرائيل فى حربها على قطاع غزة، أهمها احتواء الصراع ومنع تحوله إلى حرب إقليمية واسعة قد تؤدى إلى تورط القوات الأمريكية فى القتال بشكل مباشر، وضمان سلامة الأسرى وضمان إمكانية وصول المساعدات الإنسانية إلى السكان، وحددت سقفاً زمنياً للحرب، غير أن إسرائيل تجاوزت هذا السقف وماطلت واستمرت فى الخداع لاستمرار أمد الحرب بزعم تحقيق الأهداف المطلوبة؛ وأولها القضاء على حركة حماس والمقاومة الفلسطينية وتحرير الأسرى، فكان المدى الزمنى للحرب على غزة هو نقطة الخلاف الرئيسية التى نشبت بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ إن واشنطن لا تريد تحمل المزيد من الضغوط على مواردها المالية والعسكرية واستمرار استنزاف سمعتها الدولية وزيادة الانقسام الداخلى بين الجمهوريين والديمقراطيين، فقد كانت الولايات المتحدة تريد تحقيق مكاسب على الأرض بأسرع وقت ممكن، والانتقال إلى مرحلة أخرى تخفف عنها الضغوط، وتتناسب مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ثم نقطة الخلاف الثانية والعميقة بين الطرفين المتعلقة باجتياح مدينة رفح، ورفض الولايات المتحدة دخول إسرائيل فى عملية عسكرية برية واسعة لرفح، دون تقديم خطة مقنعة وواضحة للإدارة الأمريكية تشمل كيفية الحفاظ على أرواح المدنيين الذين يتجاوز عددهم المليون ونصف المليون نازح، وتوفير الممر الآمن لإجلاء المدنيين، فضلاً عن توفير الغذاء والدواء والكساء قبل العملية العسكرية.
إن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل تثير فى غالب الأحيان حيرة صناع القرار وخبراء السياسة والإعلام فى الشرق الأوسط، وما يثير دهشة هؤلاء أكثر من أى شىء آخر، هو السؤال المتعلق بقدرة إسرائيل على معارضة الولايات المتحدة وتحدى سياساتها؟! بل وإظهار رفض تلك السياسات بشكل علنى دون خشية من رد فعل أمريكى قاسٍ قد يطال المساعدات الأمريكية السياسية والعسكرية والدبلوماسية والمالية لإسرائيل!. ويتساءل هؤلاء: كيف يمكن لدولة تعتاش على ما تقدمه الولايات المتحدة من دعم لها أن تجرؤ على مثل هذا التحدى السافر؟ وللإجابة عن هذا السؤال علينا فهم طبيعة العلاقة الاستراتيجية بين واشنطن وتل أبيب، فهى علاقة مصالح حيوية ودائمة لا يمكن أن تضعف مفاصلها بغض النظر عن اتفاق أو اختلاف قادة البلدين فى رؤية كل منهما لطبيعة الأوضاع فى الشرق الأوسط. إنها علاقة محمية بمؤسسات ثابتة يفوق نفوذها نفوذ الرئيس الأمريكى نفسه، وتحت عنوان المؤسسات يأتى مجلسا الشيوخ والنواب، ووزارة الدفاع، وقيادات الأجهزة الأمنية، فضلاً عن وسائل الإعلام والجامعات، والمعاهد البحثية وجماعات الضغط وغيرها، وهذه العلاقة الاستراتيجية يمكن لها احتمال التنافر أو الخلافات التكتيكية التى قد تؤدى إلى فتور فى العلاقة ما بين الإدارتين، لكن لا يمكن لأى منهما أن يتجاوز الجد الفاصل بين العلاقات على مستوى الحكومات والعلاقات على المستوى الاستراتيجى. إن نتنياهو يفهم هذه المعادلة جيداً، ويدرك أن بوسعه تحدى بايدن دون أن ينزلق نحو إلحاق الضرر بالعلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، وبالمقابل فإن بايدن يحرص بشكل واضح على التمييز بين إسرائيل ورئيس وزرائها، فهو يصرح، علناً أو تلميحاً، برفضه قرارات نتنياهو لأنها ستضر بأمن إسرائيل على المدى الطويل، وتعزلها عن العالم أكثر فأكثر، وهو بذلك يخاطب الرأى العام الأمريكى بما مفاده أن أمريكا حريصة على مستقبل إسرائيل أكثر من نتنياهو نفسه، وتتماثل مواقف بعض السياسيين الأمريكيين فى الكونجرس، خاصة مع مواقف بايدن فى هذا الشأن، حتى إن بعضهم يزيد من حدة انتقاداته لنتنياهو وحتى لإدارة بايدن بسبب موقفها الداعم له، كما أن المؤسسات الأمريكية المعنية بالأمن القومى والمصالح بعيدة الأمد بدأت هى الأخرى تشعر بالقلق إزاء تهور نتنياهو وأنانيته المفرطة وتجاهله لحجم المخاطر الناجمة عن سياساته على المصالح الأمريكية فى الشرق الأوسط، وباتت لا تتردد فى نصح بايدن بالضغط من أجل انتخابات مبكرة فى إسرائيل، ستكون نتيجتها الحتمية استبدال نتنياهو برئيس وزراء آخر أكثر اعتدالاً وفهماً للضرورات الاستراتيجية، التى تحتم على واشنطن تهدئة الأوضاع فى الشرق الأوسط؛ للتفرغ إلى القوى الدولية الصاعدة التى يزداد توسعها على حساب النفوذ الأمريكى فى العالم كله.
لقد نشأت فى الولايات المتحدة بيئة وليدة غير آمنة بالنسبة لإسرائيل، فالانتقادات تتصاعد وتيرتها من جانب الإدارة الأمريكية، وأعضاء بارزين فى الكونجرس، وإعلاميين ومسئولين سابقين ضد سياسات نتنياهو ومغامراته الطائشة فى غزة، ويبدو أن هذا ما شجع إدارة بايدن على رفع نبرة التحذير لنتنياهو بشكل غير مسبوق، ليصل الأمر إلى إبداء التعاطف الضمنى مع دعوة عضو الكونجرس «تشاك شومر» الإسرائيليين لإجراء انتخابات مبكرة، باعتبار ذلك مدخلاً حتمياً لإنهاء الأزمة، وإعادة التهدئة إلى منطقة الشرق الأوسط برمتها، ومن المؤكد أن تنامى هذه الأصوات سيدفع البيت الأبيض إلى مزيد من التشدد تجاه نتنياهو، وقد يدفعنا هذا إلى التفاؤل الحذر بشأن وقف قريب لإطلاق النار فى غزة.