الفيديو الأخير الذى عرضه الإعلام العسكرى لكتائب القسام لثلاثة أسرى قصف الاحتلال اثنين منهم فى غزة سبّب ضجة كبيرة فى الأوساط الإسرائيلية، وزاد من هوة الخلافات بين المؤسستين العسكرية والسياسية.
أصوات المعسكر الصهيونى المتطرف، متمثلاً فى رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الجيش يوآف جالانت ووزير الأمن القومى بن غفير ووزير المالية سموترتش، ترى أن استمرار الحرب على غزة وإعادة احتلال القطاع واجب دينى وقومى لا بد أن يتحقق، بغضّ النظر عن الخسائر التى يتكبّدها الاحتلال يومياً فى وحل غزة، بالإضافة إلى التضحية بالأسرى.
فيما يرى معسكر الجيش، متمثلاً فى بينى جانتس وإيزينكوت، أنه يجب التوقف عن الكذب، ومواجهة أنفسهم وأن مفاوضات صفقة تبادل الأسرى أصبحت أولوية لا بد من الالتفات إليها، خاصة فى ضوء سقوط العديد منهم قتلى، بسبب القصف المتواصل على غزة.
وغنى عن القول أن الخلافات فى مجلس الحرب تتفاقم يوماً بعد يوم، وتتسرب للعلن بعد أن كانت محصورة فى الغرف المغلقة، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت تتململ من تورط إسرائيل أكثر وأكثر فى مستنقع الحرب، دون أن تحقق أياً من الأهداف المعلنة بعد أكثر من 100 يوم على الحرب، حتى إن الرئيس الأمريكى يرفض منذ أكثر من أسبوعين التواصل مع نتنياهو، فى إشارة إلى أن الإدارة الأمريكية لا تريد أن تجد نفسها فى هذا الوضع المتأزم بسبب مجريات الحرب والاستمرار فيها دون هدف واضح أو رؤية يمكن الوثوق بها.
ورغم ذلك فإن الولايات المتحدة ليس لديها النية للإعلان عن موقف يُفضى لوقف إطلاق النار، ولا أظن أنها ستتخذ هذا الموقف لاعتبارات عدة، أهمها أنها الحليف الداعم والشريك الذى تورط مع إسرائيل فى الحرب وباركها، وثانياً أنها لا تريد خروج إسرائيل مهزومة، بل تريد خروجاً بأقل الخسائر، يظهر بصورة نصر، ويحفظ ماء وجه دولة الاحتلال ومكانتها التى اهتزت، لذا تبحث عن تلك الصورة فى خيارات مختلفة.
فهزيمة إسرائيل تعنى انهيار المشروع الأمريكى فى الشرق الأوسط، ودخول المنطقة مرحلة سياسية جديدة ومختلفة، بدأت تتشكل ملامحها، الأمر الذى سيعرّض المصالح الأمريكية والإسرائيلية إلى مخاطر غير متوقعة.
ومع ذلك فإن حكومة الحرب فى إسرائيل لا تزال تتعنت وترفض الاستماع للنصائح الأمريكية، فضلاً عن تشدد الكتلة اليمينية الصلبة التى تؤيد نتنياهو وتشكل نحو 30% من المجتمع الإسرائيلى، وترى أن إطالة أمد الحرب واستمرار العملية العسكرية، سيحققان الأهداف المعلنة، وهى القضاء على حركة حماس، وتحرير الأسرى دون دفع الثمن، وهذا لم يحدث.
فضلاً عن مصلحة نتنياهو الشخصية وشهوته للبقاء فى السلطة، والهروب من واقع محتوم ينتظره عند محاكمته فى قضايا الفساد، التى قد تُنهى مستقبله السياسى بالسجن.
لكن إلى أى مدى يمكن أن تؤثر المظاهرات الاحتجاجية لأهالى الأسرى والضغط على الحكومة، لإجبارها على وقف الحرب؟ وبعد أن قتلت إسرائيل حوالى 30 ألف فلسطينى بين شهيد ومفقود، منهم عشرة آلاف طفل، ماذا تنتظر الولايات المتحدة للتدخل؟
وكم طفلاً فلسطينياً يجب أن يُقتلوا فى غزة حتى يتحرك المجتمع الدولى؟! على أرض الواقع لم تعد أى من الخيارات فى يد إسرائيل بالكامل، وأصبح عليها المفاضلة بين خيارات جديدة وبديلة تقع جميعها دون السقف المرتفع الأول الذى طرحته إسرائيل بعد هجوم 7 من أكتوبر، فالهدف الأول المتمثل بإبادة «حماس» حل محله خيار بديل هو التطويق والمحاصرة عن بُعد والاستمرار فى حرب استنزاف طويلة المدى، بهدف تفكيك أو إضعاف «حماس» على أقل تقدير، ومنعها من تنفيذ عملية مشابهة فى المستقبل.
أما الهدف المتعلق باستعادة الأسرى بالقوة فقد حل محله هدف أقل طموحاً، وهو الضغط إنسانياً على قطاع غزة لإجبار «حماس» على قبول صفقة تبادل، حتى وإن كان الثمن الإفراج عن آلاف الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية. أما ما يتعلق بهدف السيطرة الأمنية الكاملة على قطاع غزة، فقد تبدّد تماماً، ولم تعد الأوساط الحاكمة فى إسرائيل تحلم حتى بإمكانية تحقيق مثل هذا الهدف.
وربما خلال الأسبوعين القادمين نشهد مزيداً من تقليص الأهداف، إذا ما فشل الجيش الإسرائيلى فى تحقيق تقدم ميدانى جوهرى، يرسم فى إسرائيل صورة الانتصار التى تُمكن نتنياهو من العودة إلى ساحة التنافس على المستقبل السياسى بالقوة.
يبدو أن الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة فى تقرير الخيار الذى سيتبعه نتنياهو، فإذا استمرت صورة المواجهة فى الميدان على حالها، فسيكون مضطراً للخيارات الأسوأ التى ستضمن لمنافسيه الإطاحة به، وهى الانسحاب والإقرار بعجز هجومه البرى عن تحقيق الأهداف المرسومة له، والخضوع لصفقة تبادل مهينة، وهذا يعنى السطر الأخير فى حياته السياسية.