بقلم - جيهان فوزى
نتشارك الأوجاع العامة حين تنتشر أخبار الحروب، نتخيل الدمار والموت والقتل، نتعاطف ونتأثر بما نشاهده ونسمعه من المكلومين، لكننا أبداً لا نعيش نفس المصير القاسى والتأثير لمن عايشوا تجربة الحرب وأهوالها، الحرب خراب ودمار، جثث تخرج من تحت الأنقاض، بيوت عامرة تسوَّى بالأرض، مرضى نفسيون يعانون ذكريات الفزع ومرارة الفقد الموجع، نلتقط أنفاسنا بصعوبة مع كل صاروخ يسقط على منطقة سكنية تعج بالأطفال والنساء والمسنين، يسقط فيها مَن يسقط مضرجاً بدمائه، وينجو من كُتب له النجاة، ليعيش أمراضاً نفسية تصاحبه طوال حياته، أو عاهة مستديمة تذكره بما حدث له ولعائلته وجيرانه، صافرات الإنذار لا تدوّى فى غزة كما إسرائيل.. فجأة يعلو الضجيج والأنين وصرخات المصابين، لتعلن سقوط وابل من الصواريخ التى لا تستهدف سوى المدنيين الأبرياء.
غزة عانت ويلات الحروب المتعاقبة، ولا تزال هدفاً مستباحاً لأى صراع سياسى يبحث عن انتصار، قطاع غزة يدفع ثمناً باهظاً للصراع الدائر بين أقطاب متناحرة ليس فيها منتصر، الجميع خاسر، والفلسطينيون هم الخاسر الأكبر، فى كل حرب تخوضها غزة ضد الاحتلال الإسرائيلى يكون الثمن موجعاً، والفاتورة باهظة التكاليف، فمن رحِم الدمار تولد آلاف القصص المؤلمة، التى تعبِّر عن مصير هذا الشعب الذى أنهكته الحروب والحصار والعزلة والتجويع.
«عبير» واحدة من آلاف الناس الذين عاشوا قصصاً حزينة ومؤثرة، تكشف عن مأساة الفلسطينيين ومعاناتهم مع الحرب والاحتلال. فى لحظة غادرة فقدت «عبير» من كان سيشاركها أحلامها وحياتها ومستقبلها، حين قرر الاحتلال توجيه ضربات موجعة لحركة الجهاد الإسلامى فى غزة فى الأيام الماضية، صاروخ إسرائيلى فرق بينها وبين خطيبها الذى كانت تخطط معه لمستقبلها، وبدون سابق إنذار كان لغارة إسرائيلية غادرة رأى آخر، لتقضى على حلمها فى الاستقرار والحياة، سمعت الخبر كغيرها عن غارة إسرائيلية فى جنوب غزة قتلت أماً وابنها، استشعرت الخطر، وشيئاً ما يقبض بشدة على صدرها ويخنق أنفاسها، لم تكتفِ بمشاعر الخوف، أرادت التحقق بنفسها، ذهبت إلى المستشفى تسبقها المخاوف والهواجس، حتى أتاها اليقين، تسبقها كلمات العزاء والمواساة والتحلى بالجلد والصبر على مصابها المفجع، تأكدت مما كانت تخشاه، خطيبها ووالدته أصبحا أثراً بعد عين، بعد أن فرقت بينها وبينهما قذيفة صاروخية قضت على آمالها وحاضرها ومستقبلها، لقد كان بالأمس يحدثها عن أحلامهما ومستقبلهما معاً، قبل استشهاد «إسماعيل» بيوم واحد كان يوصيها بكل شىء، يوصيها باستكمال ما تحبه وتفضله كالمرسم والجامعة، يوصيها باستكمال ما بدآه معاً، وتفاصيل كثيرة أخرى تتعلق بحياتهما، وكأنه يعرف ما سيحدث.
تقول «عبير» إنه نظر إليها بحزن، وقال: «هادى الحرب ما بتيجى إلا على الغلابة يا عبير». فهل استشعر نهاية الأجل؟ أم إن الأحياء فى غزة يعتبرون أنفسهم مشاريع أموات مؤجلة إلى حين! لكنه ليس ببعيد، نظراً لما يعانيه قطاع غزة من أزمات وحروب متلاحقة.
«عبير» كانت تواسى الذين فقدوا شخصاً عزيزاً عليهم، بمقولة: «هو الآن فى الجنة»، دون أن تدرى أنها ستكتوى بنار الفقد أو الإحساس به مثلما يشعرون، حتى جاء اليوم الذى احترق فيه قلبها وحياتها معاً، وعرفت كيف يكون إحساس الفقد؟ وكيف يكون شعور الألم والحسرة الذى يعيشه الغزيّون على حد تعبيرها؟ الوضع الطبيعى أن يلاحق الإنسان أحلامه، ويسعى لتحقيقها ويجتهد للوصول إليها، بينما فى غزة حتى عندما يسعى إليها المواطن، لن ينالها، فالاحتلال الإسرائيلى يأخذ حياته بكل برود ودون سابق إنذار.
قصة «عبير» نموذج مصغر لآلاف القصص الحزينة التى تتناقلها ألسنة الغزيين بحسرة، هناك بيت مسقوف بالستر والقرميد تجمعت فيه الأسرة والأحفاد للإفطار معاً، حين اطمأنوا بأن هدنة وقف إطلاق النار قد بدأت للتو، لكن وفى غفلة منهم، استيقظوا فى المستشفى وسط الآلام والصراخ، لم يدركوا ما حدث لهم، أخبروهم بأن صاروخاً استهدف بيتاً فى الجوار، فوجدوا أنفسهم يرقدون فى المستشفى وتغطى أجسادهم بالضمادات والشاش، أسرة بالكامل قضى الصاروخ على أحلامها فى لحظة، الأب والأم أصيبا بجروح متفرقة، ابنتهما الطالبة الجامعية فُقئت عينها، ابنهما أصيب بشظية فى الكبد وزوجته أصيبت يداها بحروق وهى تحاول حماية طفلها، أصبحت كل آمال تلك الأسرة تنحصر فى أن ينجى الله ابنتهما مما لحق بها من إصابات خطيرة قد تقضى على مستقبلها.
خمسة أطفال فى عمر الزهور قضوا بصاروخ سقط عليهم مباشرة وهم يلهون بالقرب من المقابر منهم أربعة أشقاء! حتى المقابر لم تنجُ من عدوانهم. اعترفت إسرائيل تحت وطأة الضغوط، والإنكار والجدل والاستهانة، بأنه صاروخ انطلق من ترسانتها. فمن يحاسبها؟ وهل تخشى العقاب؟ إذا كان رد رئيس وزرائها «يائير لابيد» قد حسم الجدل حين قال بوقاحة غير مسبوقة: «لن نعتذر عن قتل المدنيين الفلسطينيين»!.