بقلم - جيهان فوزى
أتمنى أن تكون «ثقافة التعليم» جزءاً رئيسياً من مناقشات «الحوار الوطنى». لماذا؟ هناك آمال معقودة على الحوار الوطنى ليكون بديلاً نقاشياً رزيناً لمنصات الـ«سوشيال ميديا» الجنونية الصاخبة. الـ«سوشيال ميديا» عامرة بالمنافع والمميزات. لكن الهبد والرزع ليلاً ونهاراً لا طائل منهما إلا صناعة «التريند». طبيعى أن تتحول «مامى» على «جروبات» الـ«ماميز» إلى قائد ملهم ومؤثر قوى حين تتزعم حركة لإسقاط نظام التعليم القائم وإقامة نظام آخر مناسب لمقاييس الـ«ماميز». ومع كل الاحترام للـ«ماميز» وأنا منهن، لكن ليس هكذا تُصنَع الأنظمة أو تُقوَّم المشكلات.
كما أن نجاح مجموعة من الطلاب - وهم أصحاب الشأن فى العملية التعليمية - فى الوصول إلى قمة الـ«تريند» بتغريدات وهاشتاجات تطالب بإلغاء نظام الثانوية العامة، أو إغلاق المدارس، أو إقالة الوزير وغيرها لا يعنى أن جميع المطالبات منطقية.
من حق الجميع أن يعبر عن رأيه. لكن «السوشيال ميديا» أيضاً لها مساوئ، إذ تعطى للبعض إحساساً كاذباً بالقوة الخارقة ورجاحة العقل. لذلك، يبدو «الحوار الوطنى» بديلاً جيداً لمناقشة القضايا الحيوية والتعليم فى القلب منها حال إتاحة مناقشاته للاطلاع العام بالإضافة إلى وجود من يمثل وجهات النظر المختلفة حول «ثقافة التعليم» وليس منهج العلوم للصف الرابع الابتدائى، وتوزيع درجات الامتحان للصف الثالث الإعدادى، والأسئلة غير المباشرة فى اللغة العربية فى امتحان الثانوية العامة.
ثقافة التعليم وقيمتها، بل الغاية من التعليم نفسه، فى حاجة ماسة إلى النقاش والحوار المجتمعى قبل أن نُكَوِّن جبهات ضد الوزارة ومجموعات تدافع عن مسئول وأخرى تندد به، وجماعات أخرى تكون دفاعات للمجموعات الأولى ضد الثانية إلى آخر هوس الـ«سوشيال ميديا».
هوس «السوشيال ميديا» لن يقيم نظاماً تعليمياً مرجواً. بل ما يقيمه هو اتفاق أو معرفة مبدئية حول ماذا يريد المصريون من التعليم؟ وما هو مفهوم القاعدة العريضة منا لمنظومة التعليم وثقافته؟ هل هو شهادة ورقية نضعها فى إطار فى الصالون أو تقدم ضمن مصوغات طلب يد العروس؟ هل هى وظيفة مكتبية؟ وأين يقف خريج الجامعة المصرى مقارنة بأقرانه من خريجى جامعات الدول الأخرى؟ ولماذا يخفق خريج مصرى أحياناً تخرج بامتياز مع مرتبة الشرف فى اختبارات المعلومات العامة أو قياس المهارات الحياتية أو معيار الملكات والقدرة على الابتكار؟ هل لأن «السنتر» لم يكن على درجة الكفاءة المرجوة فى محتوى الدروس الخصوصية؟ هل لأن الابن العزيز «أهدر» وقته فى الذهاب للمدرسة التى تحولت أطلالاً لا شرح فيها ولا مدرس ولا تربية؟ هل لأن البيت تحول إلى مكان للمبيت وماكينة صراف آلى؟ وأسئلة أخرى كثيرة علينا أن نطرحها ونبحث عن إجاباتها وليس «سِنَج» و«مطاوى» نوجهها إلى بعضنا البعض.
البعض منا اعتبر وزير التربية والتعليم والتعليم الفنى الدكتور طارق شوقى الذى رحل عن منصبه قبل أيام عدواً لدوداً. كلمة «التفكير» تثير الهلع، ومقترح الأسئلة التى تقيس الفهم والمهارات تحرك الفزع، والجديد يحفز قرون المقاومة الاستشعارية حتى يبقى الحال على ما هو عليه من حفظ وصم وتخريج أعداد، لا أدمغة، إلى سوق العمل والمستقبل الفعلى للشباب. رحل دكتور طارق، وبقى سوق العمل القائم على المهارات والتفكير النقدى وإعمال العقل. فماذا نحن فاعلون؟!
التقرير الذى أصدرته «منظمة العمل الدولية» قبل ساعات فى مناسبة «يوم الشباب العالمى» الذى يوافق يوم 12 أغسطس من كل عام يتناول مستقبل العمل للشباب. هذا المستقبل لا يعد بالكثير للملايين من أبنائنا الذين يتم إنجابهم من أجل ضخهم فى سوق العمل لقيادة «توك توك» أو التجول ببضائع فى الشوارع أو التسول أو غيرها من الأنشطة التى يُحرَم العاملون بها من التعليم حتى يضخوا بضعة جنيهات إضافية لأسرهم الآخذة فى التمدد العددى. التقرير لم يناقش مفهوم التعليم وثقافته لدى هذه الأسر، لكن علينا أن نسألهم ونسأل أنفسنا: هل هذه الأسر كفرت بالتعليم؟ ومن السبب فى غرق ملايين الأسر المصرية فى ثقافة ضخ العيال دون تعليم فى سوق عمل هامشى لا مستقبل له؟ ولو فرضنا أن بين هذه الأسر نسبة قليلة ما زالت تمسك بزمام التعليم وترسل الصغار للمدرسة، كم فرداً منهم يؤمن حقاً بالتعليم كثقافة ومعرفة وليس مجرد نجاح الصغير فى المدرسة دون شرط معرفة كتابة اسمه أو قراءته؟!
طرح الأسئلة حول ثقافة التعليم فى مصرنا العزيزة ليس رذالة أو إهدار وقت، بل هو ضرورة لإصلاح التعليم وإعادة بنائه إن أردنا ذلك فعلياً وليس نظرياً. وقبل أن نمسك فى خناق بعضنا البعض حول فرق درجتين فى الثانوية العامة، وتغيير فكر التعليم فى الصف الرابع الابتدائى، وهل الامتحانات حتمية للصفوف الأول والثانى والثالث الابتدائى أم أن التقييم أهم وغيرها، علينا أن نصل إلى مفهوم واضح حول «ما الغاية من التعليم؟»، وهل التحاق ما لا يقل عن ثلاثة أرباع مليون طالب وطالبة سنوياً بالجامعات يصنع منهم بالضرورة مواطنين مؤهلين لغزو سوق العمل فعلياً، أم بينهم نسبة معتبرة مؤهلة لمنصات البطالة المباشرة والمقنعة نظراً لأنهم أنصاف متعلمين؟ وهل الطالب الذى اجتاز الامتحانات بمساعدة الغش مؤهل للالتحاق بالجامعة وتقلد أرفع المناصب؟
المهن التى كانت شائعة ومعروفة فى طريقها للاندثار، وتحل محلها فى المستقبل القريب جداً قائمة مغايرة من المهن التى لم نلتفت إليها بعد. وهى المهن التى لا تحتاج أينشتاين «قَفّل» ورقة الامتحان، بقدر ما تحتاج مبتكراً صغيراً قادراً على التفكير.
منظومة التعليم وثقافته تحتاج تعريفاً وفكراً ونقاشاً وليس هبداً عنكبوتياً ورزعاً مدافعاً عن ممالك الدروس الخصوصية ومقاومة التغيير والإبقاء على الجمود والتحجر.