بقلم: جيهان فوزى
الذُّعر الذى سكن ملامح وجهها البائس لخّص كل شىء عن الحادث الإرهابى الخسيس الذى ضرب الآمنين والمرضى أمام معهد الأورام، خرجت مهرولة وما زال طفلها ذو الثلاثة أعوام المصاب بالسرطان يتلقى العلاج الكيماوى عندما زلزل الانفجار معهد الأورام، فتساقطت نوافذه وتشظى أثاثه وتصاعدت أعمدة الدخان وألسنة النيران من حوله، صورة تناقلتها وسائل الإعلام والسوشيال ميديا كانت كفيلة بشرح المأساة والمعاناة التى حاصرت من كانوا على موعد مع أقدارهم فى لحظة التفجير الإرهابى، وكان من الممكن أن يكون أىٌّ منا موجوداً فى المكان، شعور مخيف يُفزع النفس، ويملأ القلب بالألم والغضب.
احتضنت السيدة طفلها الذى هو أدنى من الموت مرضاً، لكنها رفضت أن يقتله الإرهاب ويشطر جسده كما فعل بالضحايا الذين تناثرت أشلاؤهم وتمزّقت أجسادهم وتطايرت حتى استقر بعضها فى قاع النيل من هول التفجير، كيف كان شعور هؤلاء فى تلك اللحظات؟ وهل كان لديهم الوقت ليعرفوا بماذا يشعرون؟ وبماذا يفكرون؟ إنها لحظات الرعب الحقيقية التى تشل العقل وتفقد التركيز وتجمد الإحساس، لكنه الواقع الذى أصبح جزءاً من حياتنا ويشكل هاجساً مفزعاً لاستقرارنا، غير أن الخوف الأعظم يكمن فى سيل التحليلات التى انهالت من كل صوب! لتضعنا أمام أنفسنا وتحاصرنا بالتساؤلات، كيف وصلنا إلى هذا المستوى من فقر الفكر وضيق الأفق؟!.
فقد صدمنى ما أفتى به أحد الأطباء لأحد الأصدقاء حول الحادث، مصرّحاً بأنه لا يثق بما يُقال رسمياً؟ واعتبر الحادث مدبراً من داخل المعهد كى يطمس حقائق الفساد الموجودة فيه، ووقوعه تزامن مع موعد الجرد السنوى!! وبالتأكيد سيكشف الجرد عن فساد وسرقات لا بد من طمسها ووأدها فى المهد؟! فهل يُعقل أن يصل بنا الحال إلى هذا التدنى فى التفكير وانعدام الثقة؟ حتى خلص الطبيب إلى حقيقة ما جرى، وتغافل عن الحقائق التى أثبتت بالدليل القاطع أن الحادث إرهابى! وتكفينا القوة التفجيرية التى أحدثها لتُثبت صحة ذلك؟ ثم هل يمكن إخفاء المعلومات إلى أجل مسمى؟ وهل ستكتفى وسائل الإعلام العالمية بنقل المعلومات من المصادر الرسمية دون البحث والتحرى؟! وهل وصلنا إلى هذه المرحلة المتقدّمة من السادية لنُضحى بالمرضى والآمنين لمجرد التغطية على الفساد؟!.
إن ما صرح به الطبيب يضعنا أمام مواجهة لإرهاب آخر، هو «الإرهاب الفكرى» الذى ضرب استقرار المجتمع، صحيح أن الإرهاب الفكرى موجود فى كل المجتمعات بنسب متفاوتة، لأنه ظاهرة عالمية، غير أنه ينتشر فى المجتمعات الأكثر انغلاقاً ذات الثقافة المؤدلجة والشمولية، ويتجسّد فى ممارسة الضغط أو العنف، أو الاضطهاد ضد أصحاب الرأى المغاير، أفراداً كانوا أو جماعات، وأحياناً يصل إلى حد القتل والتصفية الجسدية، مثلما حدث مع الدكتور فرج فودة قبل سنوات، وفى واقعنا العربى تحول الإرهاب الفكرى إلى أداة للبطش بالوعى وبالفكر وبالذاكرة وبالحكم، تماماً مثل الإرهاب الدموى الذى يبطش بالجسد والتاريخ والذاكرة، كما فعلت «قناة الجزيرة» عندما تجاهلت الحادث الإرهابى وحولته إلى ملحمة من التباكى على المكلومين، لأنهم يعانون الفوضى والإهمال من الدولة!.
«الإرهاب الفكرى» يعطّل حركة الفكر والإبداع ويوسّع مساحة الثغرات ويخالف منهج القرآن الكريم، فما جاء فى القرآن الكريم والروايات الشريفة يدلل على وجوب أن يعمل الإنسان فكره وعقله وألا يقف فى حدود الظواهر والمعلومات، قال الإمام الحسن، رضى الله عنه: «أوصيكم بتقوى الله وإدامة التفكر، فإن التفكر أبو كل خير وأمه»، وقال الإمام الصادق «تفكر ساعة خير من عبادة سنة»، ولو تعمّقنا فى الفكر الدينى لوجدناه ليس خارج دائرة التفكير، وإنما هو فى عمقها، لكن الإرهاب الفكرى هو الذى يقمع كل قول يخالف سلطته الدينية أو ينازع قوته السياسية، وهو أيضاً الأسلوب الذى يغتصب العقول قسراً، ويرغمها على موافقة عقله وتأييد رأيه، وما تفوه به هذا الطبيب لا يخرج عن دائرة الضحالة الفكرية!.