بقلم: جيهان فوزى
ما أسهل الهجوم وما أسرع الحماس لخطاب رنان يلمس المشاعر الوطنية ويؤجج ثورة الغضب والانفعال على الظلم والقهر، غير أن الخطاب السياسى الذى يخضع لمعايير تأخذ فى الحسبان تداعيات كل كلمة يتفوه بها صاحبها تجعل من انتقاء الكلمات هدفاً حتى لا يؤخذ الكلام فى سياقات مغرضة تخدم الخصم وتفقد صاحب الحق حقوقه، هذا ما حدث عندما صهل القيادى فى حركة حماس فتحى حماد بالخطاب الذى ألقاه يوم الجمعة الماضى أمام المحتشدين فى مسيرات العودة، وأثار الكثير من ردود الأفعال المنددة لمضمونه الذى هدد فيه بقطع الرقاب اليهودية! إذ قال حماد فى ذات الخطاب: «ليسمع الوسطاء وليسمع العدو الصهيونى.. سأموت وأنا عزيز، سأموت وأنا أفجر وأقطع رقاب اليهود..»، وذكر أن حركته جهزت مصنعاً للأحزمة الناسفة، مهدداً إسرائيل بأنها إذا لم ترفع الحصار عن القطاع فإن حركته ستوزع هذه الأحزمة على المتظاهرين وستدفعهم لاختراق السياج الحدودى!!.
ليس هناك من عاقل يستمع لمثل هذا الكلام ويتركه يمر دون أثر، وإن كان خطاب القيادى الحمساوى عنترياً وحماسياً ليس إلا، غير أنه ينطوى على الكثير من الأخطاء الاستراتيجية الفادحة التى تدخل الفلسطينيين فى دوامة الإرهاب ونعتهم بالإرهابيين، وتحول مسار قضيتهم التى أنهكتها الصراعات والعزوف العربى والدولى من قضية مقاومة شرعية وعادلة تناضل من أجل دحر الاحتلال والحصول على الاستقلال، إلى قضية إرهابيين يريدون تدمير إسرائيل، وهى الذريعة التى لم تتخل عن تصديرها إسرائيل فى كل المناسبات والمحافل الدولية، فالقيم العادلة للقضية الفلسطينية تشمل العدالة والمساواة والحرية والمحبة، وهى ذات القيم التى لا يعترف المجتمع الدولى إلا بلغتها، كى يقتنع بعدالة القضية وحقوق أصحابها المنهوبة، ومن هنا فإن تصريحات حماد اللامسئولة حول اليهود لا تمت بصلة لقيم النضال الفلسطينى الباحث عن الحقوق والحرية والاستقلال، بل هى مسيئة للقضية وعدالة مطالبها التى أصبحت متأرجحة بين الإخفاقات العربية والضعف الذى ضرب المنطقة فى مقتل، وبين الادعاءات الإسرائيلية ومساندة المجتمع الدولى وتعاطفه معها، رغم كل ما تمارسه من ازدراء وقتل وعدوان وتنكيل وسادية ضد الفلسطينيين.
لقد أساء حماد لمسيرات العودة السلمية وتضحياتها على مدار أكثر من عام، قدمت خلالها أكثر من 300 شهيد و17 ألف جريح، وأعطى المبررات لإسرائيل والمجتمع الدولى لقمعها والتعامل معها بدموية لأنها ببساطة باتت تهدد الأمن والسلم الإسرائيلى! فإسرائيل فى حالة دفاع عن نفسها! خاصة أن إبداعات شباب مسيرات العودة وما نتج عنها من ابتكارات فعالة مثل إطلاق البالونات الحارقة أو الطائرات الورقية، أثرت على الاقتصاد الإسرائيلى وأرّقت مضجع إسرائيل وأحرقت مئات المزارع فى البلدات المتاخمة لحدود غزة، ومن هنا لن يقتنع الغرب بأنها تأتى فى إطار الدفاع عن النفس والمقاومة المشروعة، ولن يتعاطف مع مرتكبيها الباحثين عن العدالة والحرية، بل سيعتبر ذلك جزءاً لا يتجزأ من الإرهاب الذى يحاربه العالم ويسعى لتدميره، وفى المقابل تضيع تضحيات آلاف الشباب والأسر التى باتت بلا عائل، فماذا يقصد عضو المكتب السياسى فتحى حماد من هذه التصريحات؟! لا أعتقد أنها تتخطى خطابات الحماسة والعنترية الخادعة فى أجواء محبطة ويائسة يعيشها سكان القطاع الذين بدأوا فعلياً بالهرب من واقع الحياة فى غزة إما بالهجرة غير الشرعية أو الإقدام على الانتحار، وهى ظاهرة لم تكن موجودة فى ثقافة القطاع من قبل.
إن تبرؤ «حماس» من تصريحات أحد قادتها واستنكارها للاعتداءات التى تستهدف يهوداً آمنين فى أماكن عبادتهم واعتبار تصريحات حماد لا تعبر عن مواقف الحركة الرسمية، لن ينطلى على المغرضين الذين سيسارعون لتوظيف تلك التصريحات إلى أفعال أكثر قسوة ضد قطاع غزة المحاصر، وسيعطى المبرر القوى لإسرائيل لاتخاذ ما طاب لها من إجراءات قمعية، فضلاً عن عزوف المتعاطفين مع القضية الفلسطينية أطول قضية احتلال عرفها التاريخ ولم تحل حتى الآن!.