بقلم: جيهان فوزى
«الحاجة أم الاختراع»، مثل عربى قديم ينطبق عليه الحال الذى وصل إليه الوضع الاقتصادى والاجتماعى فى قطاع غزة، منذ فرضت عليه العزلة القسرية والحصار السياسى والاقتصادى والحروب الإسرائيلية المتتالية التى قضت على ما تبقى من أحلام قاطنيه. منذ سنوات تعدت العقد يحاول سكان غزة التكيف مع الأوضاع المعيشية الصعبة التى تنتهك كرامتهم وإنسانيتهم، شح الموارد وضعف الدخول وقلة فرص العمل أوصلت المجتمع إلى حالة مؤلمة من الإحباط واليأس وتراكم الديون، وزاد عليهم الصراع المدمر بين سلطة حماس وسلطة رام الله وتفاقم الأزمة بينهما بعد أن قرر الرئيس محمود عباس معاقبة سكان القطاع وخصم ثلث رواتب موظفيه بسبب قبوله بحكم حماس! ورغم المعاناة القاسية والفقر الشديد الذى أنهك المجتمع الغزاوى ونال من كرامة وكبرياء شبابه الذى فقد الأمل فى مستقبل أفضل، فآثر الهجرة على الاستمرار فى أوضاع سياسية واقتصادية لم يعد من الممكن احتمالها، إلا أن العديد من المبادرات الفردية لإنقاذ التكافل الاجتماعى والتضامن الإنسانى بين السكان، كانت تجد الصدى والقبول، مثل مبادرة «فك الغارمين» التى تبناها الكاتب والدكتور فهمى شراب، وهدفها تقليل المعاناة لصالح المواطنين فكان صاحب أول فكرة لفك أسر الغارمين من السجون الذين لم يستطيعوا سداد ديونهم، فى الوقت الذى أشارت فيه الإحصائيات إلى زيادة نسبة الفقر فى قطاع غزة إلى 54%، بالإضافة لعدد العاطلين عن العمل إلى 300 ألف عاطل، ولاقت المبادرة الترحيب والتعاطف المجتمعى، وتمكن من خلال تلك المبادرة الفردية من الإفراج عن (30-50) شخصاً يومياً بإجمالى أكثر من 1500 غارم فى قطاع غزّة.
ولم تقتصر المبادرة على الرجال فحسب، لكنها تمكنت من الإفراج عن قرابة 50 امرأة غارمة لم تتمكن من تسديد ديونها المالية المستحقة عليها بسبب الظروف المعيشية الصعبة التى يعانى منها سكان القطاع.
ومن قبلها ساهم تاجران فى إنجاح حملة أطلقا عليها اسم «سامح تؤجر» لفك أزمة ديون التجار وإنقاذهم من الإفلاس، بالإضافة إلى التخفيف من الأعباء عن المواطنين غير القادرين على الوفاء بديونهم، وسرعان ما لاقت الحملة القبول والمؤازرة بين الناس والنشطاء الذين شاركوا فى إنجاح الحملة، فانتشرت على نطاق واسع لتشمل من تراكمت عليهم الديون والالتزامات وضاقت بهم سبل العيش الكريم.
ومنذ ثلاثة أيام أطلق أستاذ علم الأحياء والبيولوجيا «محمود كلخ» مبادرة «زواج البركة» فوجدت صدى وجدلاً كبيرين فى المجتمع الغزاوى نظراً لجرأتها وخروجها عن التقاليد، رفعت المبادرة شعار «بنات الغلابة لأولاد الغلابة»، وينص «زواج البركة» على أن يكون المهر ألف دينار أردنى (20 ألف جنيه تقريباً) والسكن عبارة عن غرفة فى منزل عائلة الزوج وغرفة نوم لا تتجاوز الألف شيكل (5000 جنيه) وذلك عكس المتعارف عليه فى العرف الغزاوى.
ففى الماضى كان الزواج فى غزة مكلفاً للشاب وأسرته ومغالى فيه، أما وفى ظل الظروف البائسة التى يتعرض لها الشباب والفتيات الآن وهجرة البعض هرباً من الفقر فى محاولة لتكوين مستقبلهم، وانتشار البعض الآخر فى الطرقات يتجولون وجيوبهم فارغة وقد وصلت أعمارهم الثلاثين ويزيد، لأن سنوات الانقسام سرقت أعمارهم والعمر لا يعوض بثمن، فقد شعر «كلخ»، صاحب المبادرة، بأهميتها للمجتمع، وحل مُشجع لمشكلة الشباب الذى أصبح على أعتاب الضياع فى ظل تضاؤل الأمل فى رأب الانقسام وتحسن الأوضاع الاقتصادية.
ازدياد حالات الطلاق والانهيار الأسرى يرجعه صاحب المبادرة لتراكم الديون على المتزوج بسبب ارتفاع المهور التى تتراوح بين (5000-6000) دينار، ما يعادل (100 -120 ألف جنيه)، فمن حاول الإيفاء بالتزامات الزواج استدان ليكملها وهو لا يعرف كيف سيقوم بسدادها، ومن هنا تنشأ المشاكل والأزمات وصولاً إلى الطلاق.
إنها الحاجة التى تصنع الأفكار الخلاقة، والفكرة التى لم تكن مستأنسة بالأمس بسبب الأعراف والتقاليد، أصبحت مثار إعجاب وترحيب اليوم، ففى ظل الحاجة والأزمات الاقتصادية تتلاشى الكثير من العادات والتقاليد والمظاهر الخداعة المرهقة مادياً ونفسياً.