توقيت القاهرة المحلي 22:59:56 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ثرثرة في عوامة أهداف.. فوق النيل

  مصر اليوم -

ثرثرة في عوامة أهداف فوق النيل

بقلم - تمارا الرفاعي

لنقل إننى بدأت كتابة العمود الأسبوعى هذا فى عوامة أهداف سويف. فقد كنت فى طريقى إليها فى ليلة خريفية من ليالى القاهرة الدافئة. هبطت درجات تصل الشارع بالعوامة وعجزت عن الحركة فى أسفل السلم حين وصلتنى رائحة نبتة الكولونيا، والتى تسمى أيضا «مسك الليل». وقفت خارج العوامة كمن يقف وسط الطوفان، فقد فتحت الرائحة فى قلبى بابا موصدا لم أكن أعرف أن رائحة ذكرتنى بليالى دمشق ستنتزع عنه القفل المحكم.

• • •

حاسة الشم تعصف بالجسد والذاكرة وتخلق فوضى تمتد من الرأس حتى الأطراف وكأنها شحنة من الكهرباء دخلت من الأنف وتبعثرت عن طريق الدم. فى عوامة أهداف حديقة زرعت فيها هذه النبتة التى تلتصق بالنفس فى ليالى دمشق الحارة. وقفت أمام مدخل العوامة وقد فقدت حسى بالمكان بينما سألنى زوجى عدة مرات عما حدث دون أن أجيب. عدت فى ثانية إلى صيف دمشق والشارع الفرعى حيث بيت عائلتى وزاوية الشارع حيث أترك السيارة بعد سهرة مع الأصدقاء. هناك، فى تلك الساعة المتأخرة من ليلة صيفية ارتفعت فيها درجات الحرارة، عدت إلى حى جلس سكانه على شرفات منازلهم، هناك كانت نبتة الكولونيا أو مسك الليل برائحتها السكرية دوما بانتظارى لتغلفنى كما كانت تغلفنى أمى بلحاف حين ترانى مستلقية على الأريكة بعد الظهر.

• • •

فى عوامة أهداف اختلطت على الأماكن ونظرت إلى زوجى متسائلة لماذا وقفنا فى أسفل الدرج إذ لا درج فى حديقتنا فى دمشق؟.

أحكى هذه القصة لأننى أتابع تطورات إزالة العوامات من على كورنيش الكيت كات على النيل فى القاهرة. أظن أننى، ككثيرين غيرى، شديدة الحزن من قرار لا أرى فيه أى منطق ولا أفهم كيف تم المضى بتنفيذه رغم ما يكاد يكون إجماعا على عدم صوابه.

• • •

حين دخلت إلى عوامة أهداف تلك الليلة كنت فى حالة «تجربة خارج الجسد» كما تسمى باللغة الإنجليزية، يعنى أننى كنت مع الضيوف بجسدى لكنى أخذت دقائق حتى أكون حاضرة بعقلى. كان الأستاذ جميل أول من تحدث معى وقد لمس أن أمرا ما حدث للتو ورآنى أحاول لملمة عواطفى التى تبعثرت عند مدخل العوامة دون إنذار. 

• • •

شرحت للأستاذ جميل أننى فقدت البوصلة مع دخول رائحة النبتة النفاذة على بشكل غير متوقع رمانى فى ليلة مضى عليها سنوات فى وأعادنى شابة لم تعد أنا أصلا. وصفت له ذلك الشعور الدفين بالبعد رغم محاولاتى الدائمة بأن أتعايش معه ورغم شعورى بالاستقرار حيث أنا، وكنت حينها فى القاهرة. حاولت أن أصف له الساعة المتأخرة من ليلة صيف فى دمشق، حين يتوقف الهواء تماما فى سماء المدينة فنشعر، نحن سكانها، أننا فى أنبوب تجارب لا يصله الأكسجين. فى تلك اللحظة تنفجر عادة رائحة النبتة فتكسو المكان بشعور لزج من الكسل والبطء والسكر. هى لحظة عودتى إلى البيت بعد قضاء أمسية مع الأقارب أو الأصدقاء، هى لحظة دخولى إلى العمارة واحتكاكى بنبتة «مسك الليل» التى افترشت المدخل فهنأتنى بعودتى إلى البيت.

• • •

فى عوامة أهداف، شاركتها شعورى بالقلق ليلتها وفى ليال كثيرة بعدها حين جلست معها نثرثر، كما فى رواية العملاق نجيب محفوظ، ثرثرة فوق النيل. فوق هدير الماء تحت العوامة وحفيف النسمة فوقها، استقبلت العوامة أصدقاء صاحبتها بل وأصدقائهم فكانت شاهدة على ثرثارات كثيرة لم تكن ممكنة خارج تلك المساحة الآمنة الدافئة الأليفة التى خلقتها أهداف لنفسها ولمن تحب.

• • •

أحداث وتطورات ناقشناها فوق النيل، مجموعات تشكلت وتفرقت والعوامة تستقبلنا كما استقبلتنا صاحبة المكان بقلبها المفتوح ويديها تحيط بنا حين نحتاج ضمة وحضن. سنوات أدخل وأخرج من العوامة وفى كل مرة أتذكر ليلة تسمرت فيها فى مكانى حيت غلفتنى رائحة مسك الليل، ثم دقائق حاولت فيها أن أصف للأستاذ جميل كيف أفقدتنى الرائحة قدرتى على التحكم بشعورى بالبعد والغربة فطلب منى أن أكتب ما وصفته وأرسله له.

• • •

هكذا إذا، كتبت العمود الأول على طلب الأستاذ جميل بعد جلوسى معه فى عوامة أهداف. لم أتوقع يومها أن تتسبب نبتة مسك الليل بفتح طاقة فى قلبى تخرج منها الكلمات إلى الشاشة دون فلتر، أراها فيما بعد بشكل عمود يوافق عليه الأستاذ جميل كل أسبوع. من عوامة أهداف بدأ سرب كلمات يخرج من قلبى إلى العالم وصارت كتابتى الأسبوعية بمثابة بوح بما أخاف منه واعتراف بما أشك فيه ومشاركة لأفراح ولحظات خاصة قد لا تعنى القارئ إنما يعنينى أن أصبها فى النيل، تماما كما فعلت فى تلك الليلة حين أمسكت بحافة السلم واستنشقت ملء روحى من الحنين والصداقة والدفء الذين اختلطوا فى قلبى حين دخلت إلى عوامة أهداف.

• • •

قد لا أعود إلى العوامة، لكنها، كليل دمشق ورائحة الكولونيا، ستعود إلى فى كل مرة أفكر فيها بأكثر ما أحببته فى القاهرة: أماكن حميمة جمعت أصدقاء من أقرب الناس إلى قلبى حول مائدة وأحاديث عن السياسة والأفلام والحب والعلاقات ووصفات الطعام وآخر تطورات قضايا نتابعها. ثرثرة فى عوامة أهداف فوق النيل تبقى من أجمل لحظاتى فى القاهرة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ثرثرة في عوامة أهداف فوق النيل ثرثرة في عوامة أهداف فوق النيل



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:13 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

زيلينسكي يتهم الغرب باستخدام الأوكرانيين كعمالة رخيصة
  مصر اليوم - زيلينسكي يتهم الغرب باستخدام الأوكرانيين كعمالة رخيصة

GMT 18:02 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

محمد سعد يشيد بتعاونه مع باسم سمرة ونجوم فيلم "الدشاش"
  مصر اليوم - محمد سعد يشيد بتعاونه مع باسم سمرة ونجوم فيلم الدشاش

GMT 22:20 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

دراسة حديثة تكشف علاقة الكوابيس الليلية بالخرف

GMT 22:21 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

عباس النوري يتحدث عن نقطة قوة سوريا ويوجه رسالة للحكومة

GMT 08:38 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 09:13 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 06:04 2024 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الثلاثاء 31 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 14:18 2024 السبت ,13 كانون الثاني / يناير

من أي معدن سُكب هذا الدحدوح!

GMT 21:19 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

البورصة المصرية تربح 7.4 مليارات جنيه ومؤشرها الرئيس يقفز 1.26%

GMT 21:48 2020 الأحد ,04 تشرين الأول / أكتوبر

البورصة المصرية تغلق التعاملات على تباين
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon