بقلم : تمارا الرفاعي
وقفت فى بهو المستشفى بانتظار أن يقرر الأطباء ما يرونه مناسبا بشأن طفلة سقطت من شرفة منزلها وهى تمد رأسها وجسدها لتتحدث مع صديقتها التى وقفت على الرصيف. تأثرت الطفلة كثيرا بالحادث فكسرت يداها وعانت من كدمات لكن حالتها كانت نوعا ما مستقرة. انتظرت مع والدتها حتى نتأكد تماما من توفر العناية، وهو الوقت الذى أتاح لى فرصة أن أتابع حالات كثيرة دخلت عبر البهو ذاته إلى قسم الحوادث.
دخل رجل باسطا كفه وهو يصيح بمن حوله أن يخيطوا له جزءا من أذنه يحمله فى يده، بينما دمه يسيل على رقبته. أما الطفل الذى لم يتوقف عن الصراخ فقد جاء مع والدته بعد أن قطعت حافلة ال «توك توك» إصبعه فتدلى بعض من عظمة السبابة من الجرح المفتوح. أفسح المجال أمام شابين وصلا حاملين ملاءة سرير بنفسجية اللون رأيت فيها سيدة ممددة قد تكون والدتهما تكاد تغيب عن الوعى بينما يناشد الشابان طاقم الأطباء بالتدخل.
طاقم الأطباء مبهر، شباب وشابات يبدو على أياديهم جميعا آثار الحبر الذى لم ينشف بعد من كلية الطب، يعملون دون توقف والأهم أنهم يستقبلون الجميع بمزيج من مهنية وإنسانية تتعارضان مع بؤس المكان من حولهم وحولى. المكان فعلا بائس، ليس فقط لأنه يفتقر إلى معظم ما أصبح غير قابل للتفاوض فى بلاد أخرى، إنما لأن وجوه الناس فى المكان كانت تفتقر إلى أدنى علامات الدهشة أو الصدمة، وكأن ما يحيط بهم من فوضى هو أمر عادى، أمر يستحقونه أو أمر يقبلون به.
***
أعتقد أن من أكثر ما يميز البلاد المتقدمة (مع مراعاتى للتعميم) عن غيرها هو وعى الفرد بسلامته الشخصية وبالمخاطر التى قد تنتج عن استهتاره أو عن سوء استخدامه لبعض الأشياء، كما يميز البلاد المتقدمة إجراءات سلامة يجدها الفرد فى كل مكان فتكون جزءا من محيطه الحيوى أصلا بينما يتعلم منذ الصغر أن سلامته أهم من أى شىء آخر. طبعا تلعب شركات التأمين دورا كبيرا فى فرض الكثير من إجراءات السلامة الشخصية وفرض معايير الأمان عموما، إذ تضع قواعد صارمة تجبر الكثيرين على مراجعة معايير الأمن والسلامة فى البيت ومكان العمل بل وحتى فى الشارع كى يقللوا من إمكانية وقوع الخطر فلا تضطر شركات التأمين أن تدفع لهم التعويض، إذ تحملهم الشركات مسئولية عدم الالتزام بالضوابط إن هم أخلوا بها فعلا.
هناك كثير من العوامل التى تؤدى إلى زيادة معدل السلامة الشخصية للأفراد، لكننى بت الآن مقتنعة تماما أن إدراك الفرد نفسه أنه، بشخصه، مهم بغض النظر عن هويته ومكانته الاجتماعية، هو أول ما يفصل بلاد الحقوق والقوانين عن البلاد التى تفتقر إليها. أن يبدأ الإنسان حياته محاطا بما سوف يخفف احتمال وقوعه كطفل وإلحاق الأذى به فقد وضعت عائلته من حوله أغطية لسد منافذ الغاز والكهرباء فى البيت مثلا، أو خصصت العائلة قطعا ملساء غطت بها زوايا العفش الحادة كزوايا الطاولات فلا يقع عليها الطفل، كلها أشياء بسيطة لكنها جزء من عملية رعاية الأطفال فى البلاد التى تروج لموضوع السلامة الشخصية منذ الصغر. يكبر الفرد ويتعلم بسرعة أنه لن يجادل فى موضوع حزام الأمان أثناء ركوب أى حافلة ولن يقود الدراجة النارية أو حتى الهوائية دون خوذة واقية لرأسه.
هذه ليست إجراءات اختيارية فى بلاد الحقوق، هى إجبار بفعل القوانين، إذ إن الفرد مسئول عن التزامه بما ينص عليه القانون من أجل سلامته، وسوف يعاقبه القانون إن أخل به، هذا جزء من التزام الدولة تجاه مواطنيها من خلال سن قوانين تحافظ على حياتهم وسلامتهم. نجد فى المقابل وفى البلاد الأقل اهتماما بشعوبها كأفراد لهم حق فى الحياة، استهتارا فظيعا مصحوبا بقدرية تبرر عدم المسئولية. الاستهتار مبنى على قلة وعى أصلا بالخطر الذى قد يقع على طفل أو على شخص كبير بسبب سوء استخدام الفضاء العام، والقدرية تأتى من التسليم بأن ما حدث أو يحدث هو قرار أكبر من الفرد وبالتالى لا خيار للفرد فيه إذ إن الموت والحياة أمران إلهيان. وطبعا لا يؤمن من يعيش فى بلاد اللاحقوق بمسئولية الدولة عن سلامته، قد لا يفكر بالموضوع أصلا، وهنا أخطر ما فى الأمر.
***
لا أريد أن أناقش موضوع التسليم للقدرية والعناية الإلهية، فأنا من هواة مقولة «اسع يا عبد فأسعى معك» بالنسبة للعناية الإلهية. أن أفعل ما بوسعى لدرء الخطر عن حياتى هو واجبى كفرد وكجزء من المجتمع والفضاء من حولى. أن ألتزم بمعايير رآها المختصون مناسبة دون أن أفتى فيها (كالسائق الذى أكد لى أن مخاطر حزام الأمان أكثر من منافعه)، أن أعى أن شرفة لا حماية عليها سوف تجلب قطعا طفلة تحاول أن ترى ما يحدث فى الشارع فتسقط، أن أقف حين تطلب منى ذلك إشارة المرور الحمراء لأن فى ذلك عبرة، وهو مرور من فى الجهة المقابلة... هذه كلها بديهيات لا نقاش فيها البتة فى بلاد القانون، بينما ما زالت مدعاة للسخرية والاستهتار فى بلاد اللا قانون.
فى بلاد اللا قانون، ما زال الفرد يعامل ويسمح أن يتم معاملته وكأنه فائض عن البشرية، لا فرق فى بقائه أو ذهابه، إن بقى لن يغير الكثير وإن ذهب فهذا قدره.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع