بقلم - تمارا الرفاعي
«يحتاج العالم إلى كل شىء ليكون عالما» يقول مثل فرنسى للتأكيد على التنوع والاختلافات بين الأشخاص والشعوب والدول والجغرافيا والسياسة وغيرها. هو مثل يستخدم عند الاختلاف بالرأى، أو عندما يحتدم النقاش حول موضوع إشكالى تنقسم فيه المواقف بشكل حاد، مع وضد بشكل إقصائى لا يرى كل طرف فيه مكانا للآخر. حينها يختم أحدهم النقاش بهذه الجملة لتهدئة النفوس وللانتقال إلى موضوع آخر أقل إثارة للانفعال.
• • •
يعود المثل إلى الواجهة عند كل أزمة رأى عام، كتلك التى دارت فى الأسبوع الماضى حول حادث طعن الكاتب سلمان رشدى. أن تشتد المواقف حول الأمور الدينية ليس بالجديد على منطقة ما زالت حرية الاعتقاد والممارسات الدينية فيها غير مكفولة. أن يلجأ أطراف النقاش إلى العنف اللفظى أيضا ليس بغريب على منطقة وعقليات لم تحددها ضوابط قانونية ومجتمعية تكفل حرية التعبير وتعرف حديث الكراهية. وهذا حديث طويل ليس المقال مكانه اليوم.
• • •
اتهمنى صديق أخيرا أننى توافقية، بمعنى أننى لا أقاتل كفاية ولا أصطف بشكل حاسم برأيه، استخدم الوصف وكأنه انتقاد. فكرت بموضوع الهويات القاتلة التى وصفها الكاتب اللبنانى أمين معلوف حين أعاد تركيب الهوية اللبنانية المعقدة واعترف أنها، أى الهوية اللبنانية، لا يمكن إلا أن تكون إقصائية ودرامية بسبب الأحداث التى عصفت بلبنان وبسبب فقر الحياة السياسية المبنية بالأساس على توازن طائفى هش.
• • •
تساءلت إن كانت هويات تعتمد على الدين والطائفة بل والمنطقة هى بطبيعتها هويات إقصائية للآخر، أم إن كان من الممكن أن تتعايش ضمن منظومات تعطى للجميع حق التعبير والممارسات الدينية شريطة ألا تتجاوز أطرا تنظم المجتمع والعلاقة بالدولة. ثم عدت إلى تركيبة أصغر وأبسط فنظرت إلى أولادى حتى أفهم كيف يمكن لثلاثة أطفال يعيشون فى نفس البيت أن يكونوا مختلفين فى شخصياتهم وطريقة تعاطيهم مع ما حولهم لهذه الدرجة. عدت إلى حياتى اليومية معهم والنقاشات التى أخوضها حتى أفسر لهم قرارات آخذها بالنيابة عنهم وقد يعترضون عليها.
• • •
عدت إلى أصغر دائرة وهى العائلة حتى أفهم إمكانية أن أرسى قواعد تنطبق على الجميع رغم اعتراضاتهم المتفاوتة وتكفل لهم حرية الاختيار وحرية التعبير وتكفل لى إمكانية أن أضبط النقاشات حين نختلف. هو تمرين غاية فى الصعوبة! جزء من التعقيد يكمن فى توقعاتى كأم وفى تركيبة عقلى التى هى أصلا نتاج تفاعلى مع المجتمع الذى عشت فيه، ثم سنوات من محاولات التغيير.
• • •
كل هذا التعقيد، ثم يقال إن العالم بحاجة للاختلافات حتى يكون عالما!
من على الكرسى الحقيقى أدخل عالما افتراضيا أقرأ فيه تعليقات عن السياسة والدين والجنس وحتى وصفات المطبخ. لقد أعطى العالم الافتراضى لكثيرين، ممن كان يلجمهم الخوف أو الخجل أو التردد، أعطاهم فرصة للتواصل والنقاش والتعبير عن مواقفهم ومشاعرهم. من موقعى على الكرسى أقرأ التعليقات وأستغرب أحيانا من حدتها ثم أرد على بعضها بازدراء أيضا وأغضب من ردود أراها فقيرة أو لزجة. الكرسى يسمح لى أن أخوض نقاشات مع ناس قد لا أتقاطع معهم قط فى العالم الحقيقى لكنى قد أنتمى إلى مجموعاتهم ولو بشكل آنى أمام مواقف عامة نأخذها معا ثم نفترق أمام مواقف أخرى لا نتفق عليها.
• • •
من على الكرسى بإمكانى أن أكون فى أى مكان فى العالم وأبحر فى الفضاء الأزرق إما إبحارا سلسا أو عاصفا. أعترف أننى أظل منبهرة بقدرة أدوات التواصل الاجتماعى على الحشد وخلق مساحات للنقاش رغم القيود المفروضة من قبل الأنظمة السياسية والأمنية والدينية والمجتمعية. أرى فى ذلك إغناء للبشرية وأخيرا مساحات لا تنقض عليها السلاسل الأمنية كما تريد.
• • •
لا مجال للعودة عن مكاسب السنوات الأخيرة فى التفكير والتعبير والتواصل. فحتى مع تحديات النقاشات الافتراضية وإمكانية خروجها عن كل الأعراف بل وإمكانية تحولها إلى عنف فعلى فى العالم الحقيقى، إلا أن ما فتحه الفضاء الافتراضى من مساحات فى العقول هو من أكثر ما استفاد منه البشر. حتى عند مواجهة من نختلف معهم، فبإمكاننا أن نرتدى «عباءة الاختفاء» وأن نخوض مشاحنات لم يعرف كثير منا من قبل أين نخوضها.
• • •
وهكذا يظهر العالم على أنه مكان كالبحار السبعة فى قصص الخيال: فيه كل الأشكال والألوان وعكسها، فيه من الحياة المفضوحة كما فيه الحياة السرية، فيه من الكائنات الكبيرة والصغيرة، الوديعة والمفترسة ولا كتالوج كامل لكل ما فى الفضاء. يحتاج العالم لكل شىء كى يصبح عالما، ويحتاج للكثير من الحنان كى يصبح عالما يعاش فيه. من على الكرسى الذى أحتله صباح كل يوم، أفكر فى تعليق صديقى أننى غير مقاتلة بنظره، وأقرر أن ثمة آخرين يقاتلون فى كل المجالات، وأننى ربما سأكتفى بالإدلاء بدلوى حين يكون لتفاعلى دور بناء. ثم سرعان ما أعدل عن قرارى: سوف أطلق العنان لتفكيرى فيما هو ممكن، وأستخدم الفضاء الافتراضى حيث يسمح بما لا تسمح به أنظمة المنطقة السياسية والمجتمعية حتى أدفع بالنقاش أكثر قليلا فى كل مرة، علها تكون مساهمتى فى التأكيد أن العالم يحتاج لكل شىء فعلا وليس للقياس الموحد.