بقلم : تمارا الرفاعي
«شو بيعمل المسحر (المسحراتى) طول النهار؟» كان يشغلنى المسحراتى، أسمعه يدق على دفه فى ليالى رمضان ويوقظنى من نومى حين كنت أمضى الليل فى بيت جدتى. يا نايم وحد الدايم ويدق على الدف. جدتى كانت مقتنعة أنه يدق على قاعدة وعاء الطبخ بملعقة خشبية. بالنسبة للطفلة التى كنتها، هو شخص يظهر فى الليل وقد أخذ على عاتقه مهمة إيقاظ أهل الحى ليتناولوا وجبة السحور قبل أن يمسكوا عن الطعام حتى غروب الشمس فى اليوم التالى. لم أر المسحراتى قط، إنما أذكر أننى لاحقا كنت أسمع من والدتى أنه يظهر فى أول يوم من أيام العيد ليحصل على العيدية من سكان الحى. «كيف منعرف أنه هو نفسه اللى كل ليلة منسمعه؟» كنت أسأل جدتى فكانت تنهرنى لسوء ظنى به. «عيب تقولى أنه واحد عم يكذب برمضان» حسنا إذا، المسحراتى لا يكذب، ونحن نسمعه لكننا لا نراه، ثم ندفع العيدية لشخص نراه لكننا قد نكون لم نسمعه، وجدتى تقول إن لا أحدا يكذب فى رمضان.
كان العرف بحسب جدتى أن يغرف سكان الحى للمسحراتى جزءا من سحورهم يضعه هو فى الوعاء الذى يدق عليه، ومنها درجت عبارة «مثل سلة المسحر» لتعنى خلط كثير من الأمور ببعضها، كالمسحراتى الذى اختلطت فى وعائه أنواع كثيرة من الطعام أثناء جولته بين البيوت.
***
يزورنى المسحراتى فى القاهرة للمرة الأولى منذ أن تركت سوريا للدراسة ثم العمل. هذه السنة سمعت نداءه للمرة الأولى منذ زمن طويل فجلست فى سريرى متسائلة أين أنا. عدت طفلة نامت فى بيت جدتها واستيقظت على صوت الساحر المسحر. أسمع خطوات تيتة الخفيفة وهى تتحرك فى المطبخ فتقلى البيض وتسخن الخبز. هى تحتفى بى، حفيدتها ومدللتها رغم أنى وقتها لم أكن أصوم. أو كنت أمتنع عن الطعام والشراب حتى صلاة الظهر، وهو ما يسميه السوريون «الصيام حتى درجات المئذنة». لا أعرف مصدر هذا التعبير، أن تحدد المئذنة ساعات الصيام من الفجر حتى الظهر بالنسبة للأطفال، إنما أعرف أن جدتى كانت تعامل صيامى المختصر باحترام ومحبة، وتعد لى ولها السحور قبل أن تبدأ بصلاة الفجر وقراءة القرآن، ثم تعود للنوم.
***
فى القاهرة، حين سمعت طبلة المسحراتى فى الليلة الأولى من رمضان لم أستطع العودة للنوم. قفزت إلى الشباك علنى ألتقط ظل شخص غامض لم يظهر لى وأنا طفلة إنما قد أراه الآن وقد أصبحت أنا أما لأطفال يصومون هم الآخرون حتى درجات المئذنة. تخيلته يحمل فانوسا ملونا ويمضى فى شوارع الحى النائم فينير ضوء الفانوس الممشى من أمامه وتصل كلماته إلى آذان الجيران.
***
المسحراتى ساحر، أنا مقتنعة بذلك. يوقظنى من سباتى فأبتسم. ينشر عباراته المألوفة فيعيد لى رائحة السمن والبيض فى البيت القديم فى دمشق. ينقر على طبلة أو قاع القدر كما اعتقدت جدتى فتظهر القدر النحاسية المختلفة التى كانت تستخدمها سيدات دمشق لطبخ كميات من الطعام تكفى لعائلتهن ولـ«سكبة» للجيران كل يوم من أيام رمضان.
السكبة، أى أن تغرف سيدة الدار بعضا مما طبخته وترسله للجيران قبل الإفطار، من أجمل تقاليد رمضان على الإطلاق فى سوريا ومن أحبها إلى قلبى. كانت قد اختفت بمعظمها فى الأحياء الحديثة خلال السنوات الأخيرة التى عشتها هناك، تماما كما اندثرت كثير من عادات السوريين، إنما ظلت السكبة ترافقنى فى تنقلاتى أينما وضعت حقائبى. أشم رائحة الطهى فى مدخل العمارة فأتمنى أن ترسل لى الجارة طبقا صغيرا فيه بعضا مما تطبخه. أنا لا أعرف الجارة أصلا ففى حياتى الحديثة فى مدينة مثل نيويورك لا أتوقع أن يرسل لى أحد طبقا من الزجاج مرسوما عليه وردة برتقالية كالذى كان فى بيت جدتى وقد صب فيه المرسل بعضا من فتة الدجاج. كما سوف يستهجن من أرسل له سكبة من الجيران وأنا بالكاد أعرف اسمه. لكن الحق يقال، أنا أسمع من أصدقاء يعيشون فى مدن أصغر فى أمريكا أن ثمة عادة تنص على أن يرسل الجيران الحلوى والمخبوزات إلى من ينتقل جديدا إلى الحى، هذه هى إذا عادة السكبة تظهر فى بعض المدن الصغيرة.
***
هنا فى القاهرة، يصدح المسحراتى «يا نايم وحد الدايم» فينعش قلبى. أحبها هذه الشخصية التى لم أراها قط، أريد أن يحبها أولادى أيضا وأن يتذكروا أنهم سمعوها هنا، فى بيتنا فى القاهرة. قد لا يكون هناك مسحراتى بعد عشرين سنة حين يكبرون، قد يكونون فى بلاد لا مسحراتى فيها ولا سكبة، لذا أريدهم أن يتشربوا الكلمتين فى صغرهم. أريدهم أن يحبوا الرجل الغامض كما أحبه أنا وأن ينتظروه ويتساءلوا أيضا عن مظهره وعم يفعل باقى أيام النهار. أريدهم أيضا أن يكونوا على موعد سنوى مع المسحراتى، حتى لو الموعد فى ذاكرتهم فقط.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع