بقلم :تمارا الرفاعي
يقال إن ثمة يوم فى السنة اسمه «يوم الابنة»، أتساءل كل يوم أفتح فيه عينىَّ على وجه ابنتى آخر أطفالى إن كان هو يوم الابنة، لا أعرف إن كان موقعها فى الخانة الأخيرة هو ما يحكم دلعها ودلالها، أم أن فكرة أنها آخر ما أنجبته ولن أنجب بعدها هى ما يدفعنى للتمسك بجانب العلاقة الطفولى الذى يربطنى بها، لا أعرف إن كان خوفى من الكبر ومن فقدان القدرة على الإنجاب هو جوهر علاقتى بابنتى وما يحزننى بقدر ما يفرحنى كل مرة ألاحظ فيها أنها تكبر وتنتقل إلى مرحلة جديدة.
***
فى «يوم الابنة» الذى تعرفت عليه من خلال شبكات التواصل الاجتماعى، أعترف بأن فى حبى لابنتى شيئا نرجسيا، فكل مرة أسمع فيها أنها تشبهنى، أنظر إليها وكأننى أنظر إلى نفسى، فى حبى لابنتى اطمئنان أننى مستمرة، أنها جزء منى سوف يدوم، قطعة من قلبى ستستمر بالخفقان حين ينطفئ قلبى.
***
حبى لابنتى فيه مراجعة لنفسى، فيه أسئلة تظهر مع كل جديد يظهر على ابنتى، أسئلة عنى وعن أمى، أسئلة عن أمى وعن جدتى، ها هو حبل متين ربطنى بسلالة النساء التى أنتمى إليها من طرف أمى. أنظر فى صورنا وأخاف من شدة التشابه بين الأجيال، وكأننا لوحة أصر من رسمها أن يظهر فيها الاستمرارية، لوحة ربما اسمها الحياة، حياة تنتقل من امرأة إلى أخرى تشبه جميعهن بعضهن البعض مع فروقات قليلة، حتى لو أمعنت النظر فى الصور لاعتقدت أننا جميعنا الشخص ذاته فى مراحل مختلفة.
***
يصالحنى حبى لابنتى مع نفسى، يحنن حبى لابنتى قلبى على أمهات أخريات. يقربنى حبى من ابنتى من أمى فأرانى أحيانا هى وأرانى فى بيت أذكر ملامحه دون أن أذكر تفاصيله، فقد عشت فيه حين كنت فى عمر ابنتى إنما الآن أرى نفسى فيه على أننى أمى، أقف هناك منذ أربعين سنة، شابة قوية تتعامل مع طفلتها بطريقة تعتبر تقدمية بالنسبة لتلك الأوقات، تعامل من اقتنع بأن الابنة القوية هى ابنة تثق بنفسها وتعبر عن آرائها دون مواربة حتى لو عمرها خمس سنوات.
***
ها هى أمى تأخذنى معها فى كل مكان، تجلس أمامى وتغنى لى «قمرة يا قمرة» وأنا أردد معها الأغنية وتؤكد لى أننى القمر خاصتها وقد قطفتنى من السماء، أمى الجميلة بخصرها النحيل وعينيها اللوزيتين تدخل عالما جديدا من خلال علاقتها بالطفلة التى كنتها.
***
أقود اليوم السيارة فى طريقى إلى مشوار مع ابنتى فيذيع الراديو أغنية «قمرة يا قمرة»، أغنيها وتغنيها ابنتى التى حفظت هى الأخرى كلماتها وتسألنى «ماما هل أنا قمرتك؟» فأؤكد لها، كما فعلت أمى من قبلى، أنها قمرى وأننى استعرتها من السماء فى هذه الحياة لتنير لى ما حولى.
***
حبى لابنتى يدخلنى فى دهاليز لم أعرف عنها من قبل، يأخذنى إلى مكان أرى فيه طفلة تلعب فى الرمل تحت بيتها بينما تجلس أمها مع الجارات يراقبن الأطفال، أنا اليوم فى عمر أمى والجارات يومها فأتصل بصديقة كانت تلعب معى تحت العمارة لأسألها إن كانت هى أيضا تشعر أنها أمها وأن ابنتها هى. هناك حب للذات مرتبط بحب الابنة، هو نوع من النرجسية الحميدة، نرجسية تساعد على التصالح وتشجع على التسامح مع النفس.
***
هو حب أشعر بطاقته تجتاحنى من قلبى حتى رأسى ومن قلبى حتى معدتى، طاقة تتمدد فى داخلى فى أيام أشعر فيها بالتعب فتعيدنى فرحة نشطة جاهزة لمتابعة حديث معى، نعم حديث مع شخصى الصغير. هو حب لشخصها الصغير فأجلس أمامها مستمتعة بكلمات أكاد أن أتذكرها من حديث مشابه أجريته مع أمى منذ أربعين عاما حين كنت ابنتى وكانت أمى أنا. لو كنا مشهدا فى فيلم كان المشهد هو لأم وابنة يتغير فوقهما النور فتغيب شمس وتظهر شمس أخرى عدة مرات وتتغير ملامح الشخصيتين فيما تظلان فى مكانيهما تتحدثان.
***
هكذا أتبادل كرسيا مع أمى وأعطى الكرسى الذى كنت أجلس فيه لابنتى. هكذا أحب ابنتى ومن خلالها أحب نفسى وأفهم أمى أكثر فأتوقف عن مناكفتها قليلا وأتقبل قرارات أخذتها هى أحيانا لم أكن أفهمها من قبل.
***
هو حبل سرى لا ينقطع يربط سلالة النساء بإحكام وينقل بعض الخصائص من جيل إلى جيل. أو هكذا أشعر حين أنظر إلى ابنتى وأحس بقلبى وهو يمد يدين تخترقان قفصى الصدرى وتخرجان منه لتضما الطفلة. أسمع قلبى يتوسل أن تبقى هنا، ملتصقة بى ولا تتحرك، هل أبقيك هنا، أسألها. هل هناك سحر يحفظك فى عمر الخامسة لتذكرينى كل يوم بحب أمى لى حين كنت فى الخامسة فأحبك وأحبها أكثر ودون أحكام؟
***
فى حب البنات سحر ونرجسية، وتصالح مع النفس ومع أمى. فى حبى لابنتى رغبة شديدة منى أن أعيش حتى أراها فى عمرى الآن دون أن أضغط عليها فى شيخوختى. فى حبى لابنتى كنز أسحب منه جوهرة بعد الأخرى وأكتشف ألوانها وتلألؤها ثم أتذكر أن عند أمى نفس الجوهرة.