توقيت القاهرة المحلي 00:57:39 آخر تحديث
  مصر اليوم -

القصص.. وأم صبري

  مصر اليوم -

القصص وأم صبري

بقلم: تمارا الرفاعي

الناس قصص، الناس أسرار، الناس أشكال ألوان، الناس حكايات عن المدن وعن السياسة والاقتصاد والتاريخ والمجتمعات. الناس أساس فهم الكثير من المواد الجافة. حكايات الصباح وشرب القهوة ومشاهدات من الشرفة وتغيير اللغة ودخول مصطلحات جديدة أراها جميعها المركز الذى تنطلق منه كل النظريات. ماذا تأكلون فى الصباح؟ هل تشربون الشاى أم القهوة؟ ما شكل المواصلات العامة فى المكان الذى تعيشون فيه؟ هل يلتقى الناس فى البيت أم خارجه؟ هل ما زلنا نبارك لمن يتزوجون فنزورهم فى بيتهم؟ هل تستقبل النساء صديقاتهن فى يوم محدد كأول خميس من كل شهر مثلا كما كانت تفعل جدتى فى دمشق؟ هل هو الشهر الهجرى أم الميلادى؟
• • •
فى أغنيته الشهيرة «أحلى من برلين» يقول الموسيقى فرج سليمان إنه يشتاق للحارة ولأم صبرى، التى يمكن أن تكون الجارة أو الجدة أو المدرسة أو أى شخصية محلية بإمكان أغلبنا أن نتخيلها، ففى حياتنا جميعا «أم صبرى» كثيرات يمثلن شيئا شديد المحلية والخصوصية يظهر لنا فى أوقات الوحدة والاشتياق للمألوف. أظن أن أم صبرى هى قصص نتشربها دون تفكير وتدخل علينا كطبقات تتراكم وتتزاحم فى ذاكرتنا وتشكل وعينا بأماكن ومراحل مررنا بها. أم صبرى وقصصها جزء من كل شخص ومرجع أساسى يظهر دون استئذان فى لحظات غالبا ما تكون أشد البعد عن ظروف تعرفنا فيها على أم صبرى.
• • •
تصلنى كلمات فى شارع فى عاصمة غربية ترمينى فى بيت عمة فى حلب يوم العيد وهى تخرج مربى الباذنجان بنكهة القرفة والقرنفل من إناء زجاجى مستخدمة شوكة رفيعة، يتبع ذلك ثناء أمى وكلمات الشكر من أمى ووصف العمة بأنها أنيقة و«متقنة». أو أن أرى شخصا لا تربطنى به أى علاقة فأتذكر رجالا كانوا يقفون عند ناصية مزدحمة يحدقون بالمارة وخصوصا الصبايا منهم وأضحك اليوم حين أتذكر أبو صبرى، زوج أم صبرى، وهو يبحلق فى الشابات وزوجته ترميه بعبارات صارخة تطلب منه أن يعود إلى البيت. كنا نعرف جميعا أنه مخبر لصالح الأمن مثلا فنستمتع برمى كلمة أمامه نعلم أنه سيحاول أن يفندها ويتابع تطوراتها دون جدوى.
• • •
أعود اليوم إلى تفاصيل أحاول أن أفهم من خلالها البلاد أو الحالات المختلفة لأماكن عشت فيها. صرت أرى التفاصيل والقصص أنها أهم من المواد الجافة التى تفسر المراحل والأماكن. أن أراقب تغييرات طرأت على عائلة أو عمارة أو شارع أو حى، هو بالنسبة لى، موضوع مبهر: من التفصيل الحميم الصغير الشخصى أوسع العدسة لأرى الصورة الأكبر، هذه طريقتى المفضلة بالسرد وبفهم الأماكن والمراحل.
• • •
لفت نظرى صديق أن للمصريين قدرة تفوق قدرة من حولهم فى المنطقة العربية بالسرد المجتمعى، وأن الكتابة المصرية فى السنوات الأخيرة أصبح جلها على طريقة سرد الحكايات بشكل مذهل يتيح لغير المصريين أو من لا يعيشون فى مصر أن يتابعوا تطور المجتمع المصرى عن قرب. سبق للعملاق نجيب محفوظ أن أثرى فهم الكثيرين بالحالة المصرية من خلال عبقرية كتابته عن النفس البشرية ومراحل تطورها وعلاقتها بما حولها فقد أرسى نوعا من الأدب يوثق لأدق تفاصيل المجتمع.
• • •
اليوم أقر أن قراءتى المفضلة هى تلك التى تتخذ من الفرد ومجتمعه الضيق أساسا لقصة أفهم من خلالها البلد وسياسته واقتصاده وعلاقات القوة التى تربط الأفراد فيه فيما بينهم. أبحث عن قصص أرى فيها تقاطعات مع قصص أعرفها، أبحث عن شخصيات تساعدنى على فهم علاقتى بالمكان أو الأماكن: ما الذى ما زلت أهرب منه ويعود ليشدنى وكأننى لم أبتعد؟ ما هو سر أم صبرى التى لطالما نفرت من فضولها وتدخلها الدائم فيما لا يعنيها وها أنا أبحث عنها فى شارع مدينة غربية وأجد بالفعل من تشبهها فأوقفها فى الشارع لأسألها عن مكان يبيع الكنافة؟
• • •
هذه العلاقة الإشكالية الملتبسة بالمكان أعيشها عن طريق شخصيات مرت على وشكلت عندى ذاكرة عن مرحلة ظننت أننى تعديتها بل ولفظتها لأعود اليوم إليها بنوع من الشوق الساذج. لم أحب أم صبرى قط الحقيقة وبنيت معظم رحلتى فى محاولة ألا أدعها بفضولها ولسانها السليط تتحكم بحياتى. وها أنا أدندن مع فرج سليمان أننى أيضا أشتاق لأم صبرى وقصصها عن الحى. أظن أن الفرق بين من كنت حين أزعجتنى أم صبرى فى شبابى وبين من أصبحت اليوم هو أننى صرت أضعها فى سياقها وأضحك على فضولها ومحاولتى أن أفلت من قبضة لسانها على حياتى، لكنى أشتاق لما تمثله من ألفة ودفء وعزوة حين أحتاجها.
• • •
علاقتى بالأماكن معقدة وأكتشف أن الحال كذلك عند كثيرين من أصدقائى ممن تحركوا فى الفضاء والمراحل بعيدا عن مكانهم الأصلى، ليس بالمعنى الجغرافى فقط إنما تحركوا أيضا فى طريقة حياتهم حتى لو ما زالوا قريبين من مكان ولادتهم. تبقى أم صبرى شخصية أساسية فى علاقتى الإشكالية بالمكان وبالتغيير (أو عدمه). أريد أن أعود فألقاها لكنى لا أريد أن أعيش قربها. أريد قصصها حتى أشرح لأولادى عن القاهرة ودمشق وبيروت فهم لن يعرفوا هذه المدن دون حكايات الناس. علاقتى بالأماكن هى القصص... وأم صبرى.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

القصص وأم صبري القصص وأم صبري



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:09 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

مدحت صالح يعلن عن ألبوم جديد وتحضيرات مميزة لحفل رأس السنة
  مصر اليوم - مدحت صالح يعلن عن ألبوم جديد وتحضيرات مميزة لحفل رأس السنة

GMT 04:08 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

أوستن يبحث مع نظيره الإسرائيلي الأحداث في سوريا

GMT 10:04 2024 الأربعاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

بلينكن يطالب بتأمين أي مخزونات للأسلحة الكيميائية في سوريا

GMT 05:32 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

العملة المشفرة بتكوين تسجل مئة ألف دولار للمرة الأولى

GMT 09:24 2023 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نجوى إبراهيم تكشف كيف تظهر بصحة جيدة رغم محاربتها المرض

GMT 11:00 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

أحدث موديلات العبايات الأنيقة والعصرية هذا العام

GMT 08:58 2024 الإثنين ,07 تشرين الأول / أكتوبر

روتين ضروري قبل النوم للحفاظ على نضارة البشرة

GMT 07:12 2019 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

مرتضى منصور يعلق على رسالة طارق حامد

GMT 03:15 2019 الثلاثاء ,25 حزيران / يونيو

رانيا يوسف تحتفل بقُرب انتهاء تصوير "مملكة إبليس"
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon