بقلم :تمارا الرفاعي
فضاء مفتوح على الحياة وعلى الموت، مساحة زرقاء أبحر فيها كل صباح بحثا عن مكان أرمى فيه المرساة لدقائق علنى أجد مكانى حتى لو فى عرض البحر الافتراضى. أعرج على صفحات الأصدقاء ممن امتدت علاقتى بهم لسنوات أو عقود، وعلى آخرين جمعتنى بهم الحياة بشكل مفاجئ وخارج ما كان مألوفا.
***
أتوقف عند صورة وألعب مع نفسى فلا أقرأ الاسم علنى أتعرف على الوجه فلا أتعرف عليه. أنظر إلى الاسم فتعود لى بعض الصور القديمة فى مكان وزمان تبخرا. أمعن النظر فى محاولة لاستحضار حالة عشتها فى ذلك المكان والزمان فأشعر وكأننى أسقط فى بئر، أهوى فى خندق عامودى نحو الأسفل وأخاف أن أرتطم بالأرض فتتبعثر أجزاء نفسى أمضيت السنوات العشر الأخيرة فى محاولة لملمتها.
***
يا إلهى كم يبدو عليه أثر السنوات، أقول وأنا أرى صورة شخص كان فى الماضى ملك زمانه يمشى كالطاووس. فى صورته اليوم سنوات أضافت ربما إلى وجهه بعض الوقار حتى أننى لم أعرفه قبل أن أقرأ اسمه. ثم أتنبه أننى قطعا أثير ردة الفعل ذاتها عند من يرى صورتى قبل أن يقرأ اسمى. ها أنا أيضا أمام الشاشة بعد عشر سنوات من أحداث رسمت فى قلبى وعلى وجهى شروخا رممت بعضها وتركت بعضها آخر. ها أنا أمام شاشتى بعد عشرين عاما من التنقل ومن بدايات ونهايات فى بلاد عديدة احتفظت خلالها بمفاتيح بيوتى التى سكنتها فيها.
***
أنا ومفاتيحى وألبومات الصور ودفاتر ملأتها بالخواطر ننتقل من حياة إلى أخرى فيصبح الفضاء الافتراضى هو مكان اللقاءات والاستمرارية. تتغير الأحداث من حولى، تسقط أنظمة سياسية وتظهر أخرى، يموت قائد ويتمسك آخر بالبقاء، تنهار أبنية وتحترق غابات، وها هو الفضاء الافتراضى ملاذ ألجأ إليه كل صباح مع ظهور خط إضافى على وجهى.
***
بت أعزى أكثر مما أبارك، أواسى أكثر مما أشارك بالأفراح. هى ربما مرحلة عمرية كان يجب على أن أحضر لها بشكل أفضل حتى لا أرتمى فى البئر فى كل مرة تودع فيها صديقة أحد والديها فأشعر أننى ابتعدت أكثر عن اليابسة وهويت بشكل أسرع فى البئر. أم أن الإنسان يصبح أكثر ميولا لالتقاط موجات الحزن مع تقدمه فى الحياة؟
***
كنت أقرأ أن الحياة هى ما يمر بينما يخطط الإنسان لأمور كثيرة. الآن حين أشعر أن معظم يومى أمضيه فى عملية تخطيط لحياتى وعملى وأسرتى، هو تخطيط لا أسيطر على جله على فكرة، أشعر أن الحياة فعلا تمضى وترمى بصور ناس فى وجهى كل صباح حين أزور الفضاء الافتراضى فأتذكر فجأة قصصا أصبحت قديمة وأتساءل كيف مضت السنوات.
***
أنا لا أمتلك حكمة البعض فى تقبل عامل الزمن. لا أعرف كيف أستسلم لشعور الفقدان. ليس لدى من الصبر ما يساعدنى على التسامح مع ذهاب من أحب. ها أنا أسرح فى الفضاء الأزرق وأعزى الأصدقاء كل يوم، ومع كل تعزية أشعر أن ثمة من دفعنى من مكانى على حافة البئر فأهوى وأخاف أن أرتطم وأتحطم.
***
للأمانة هناك أيضا الكثير من الأخبار الجميلة ولقطات تجمع أشخاص أحبهم فأبتسم للشاشة وأرمى عليهم السلام. للأمانة فالفضاء الأزرق يذكر أيضا بالحياة التى ما زالت تضخ فى قلبى فرحا وشوقا وحنينا يجعلونى أتسامح وأتقبل وأطوى صفحات دون عتاب. ها هى الحياة إذا تمضى وأرى حلقاتها على الشاشة الزرقاء، فأحزن تارة وأضحك تارة أخرى. أعزى بفقيد وأبارك بقادم جديد وأراقب تغييرات فى الوجوه قد لا ألاحظها إن كنت أرى الشخص باستمرار.
***
أتساءل كثيرا إن كنت سأرمى مرساتى فى مكان أنصب فيه خيمة وحياة. أندم أحيانا على خيار حياة التنقل وأشعر ببعض الغيرة ممن اختاروا مكانا وامتلكوا الفضاء من حوله، ففى يدهم حياة وقدرة على التوقع وأحيانا على التنبؤ ليست لدى. أحوم على وجهى فى البحر الافتراضى حاملة مرساة ثقيلة على ظهرى لا أعرف أين أرميها حتى أرتاح.
***
الشاشة فضاء كبير مفتوح على الحياة والموت، شرفة على مراحل حياتية كثيرة، أتكئ على درابزين الشرفة وأنظر إلى حياتى وحياة وموت الآخرين. أشعر ببعض الخجل وأنا أكبر صورة حتى أرى بوضوح ملامح الشخص وأتأكد أنه، كغيره، قد تغير من مرور الوقت. أدخل إذا فى بعض الدهاليز التى يفتحها أمامى مستخدمى شبكات التواصل الاجتماعى وأعود أدراجى بعد أن أتأكد أنهم ما زالوا هنا. صباح الخير يا فلان، أهلا يا فلانة، ها هى صور حفلة الخطوبة، الحمد لله. تخرج ابنهم من الجامعة؟ يا الله أنا أتذكر حين باركت لهم بولادته. الله يرحم الوالد، تعازى الخالصة للعائلة برحيل العمة.
***
فى الفضاء المفتوح على الحياة والموت أبحر كل يوم وأرمى المرساة هنا وهناك. أشارك بحديث عابر وأتمعن فى الوجوه علنى أجد فيها مكانى فأتوقف عن البحث. هكذا، لى مع الدفتر الكبير لقاء كل صباح، أسجل حضورى وأتفقد من أحب، أحزن على من رحل واستقبل من جاء. ثم أسحب مرساتى وأبحر من جديد.