بقلم :تمارا الرفاعي
يحدث أن تكون فى السيارة فى طريقك إلى مكان ما، لا يهم إن كانت عربية خاصة أو سيارة أجرة، أنت فى الطريق إلى مشوار عادى كأن تكون متجها إلى سوق الخضار أو للقاء صديق اتفقت معه أن تزوره. يحدث أن يكون الراديو فى السيارة مفتوحا على محطة تبث أغانى. ويحدث أن يتملكك شعور بأن أحدهم قد اقتلعك من السيارة ورماك فى مكان آخر، أو بالأحرى فى زمن آخر.
***
أنا فى مطبخ أقف أمام الشباك وتصلنى أنغام من بيتى ومن بيت الجيران، فنحن نستمع إلى نفس الموجة وندندن معا كلمات الدويتو الذى اشتهر فى موسم الصيف ذاك، دويتو اختاره عرسان كثيرون لافتتاح حفلاتهم ذلك الصيف البعيد، هى أغنية خفيفة وسعيدة كسعادة مواسم مضت تحمل اليوم صورا لسهرات مبهجة.
***
أحب الراديو وأحب عنصر المفاجأة وترقب الأغنية التالية ثم حبس أنفاسى لثوانٍ حتى ألتقط النغمة. أحب الانتقال إلى زمن أظنه ما زال قريبا لكن فى الحقيقة هو زمن قد مضى عليه قرابة العشرين عاما! زمن الأغانى الصيفية الخفيفة والفيديو كليب وقنوات تلفزيونية أسفرت عن فقراتها الفنية نقاشات حادة حول ما يجوز ولا يجوز فى التصوير والرقص والغناء.
***
مع الراديو أنتقل إلى زمان وليس بالضرورة مكان، أعود إلى حالة ربما عشتها فى مكان أو أكثر، مع الراديو أشعر باللحظة، هى لحظة يرمينى فيها أحدهم فأرتطم بالتفاصيل، وجه وقصة وصوت وذلك الشعور الخانق بالحنين. أفكر فى البدء أننى أحن إلى مكان بعينه لكنى أكتشف أنه حنين لحالة، حالة حب، ساعة صفاء، لقاء لم يعد ممكنا اليوم بسبب السنوات والاختلافات وأيضا بسبب الموت. الراديو يرمينى بعنف فأرتطم بحائط لا أراه فى الثوانى الأولى ثم سرعان ما تعتاد عينى على درجة الضوء وأنظر حولى فتظهر لى كلمات ووجوه تبدأ بالكلام. هم لا يرونى بالضرورة لكنى أراهم وأسمعهم وأعرف قصصهم لأننى كنت جزءا منها هناك، فى ذلك المكان أو الزمن الذى هبطت فيه دون أى مقدمات بفعل أغنية دويتو على الراديو.
***
أنا لا أتحدث عما يسمى بأغانى الزمن الجميل القديمة والتى لم أعشها سوى من خلال أفلام باللونين الأسود والأبيض شاهدتها فى طفولتى وحلمت مع أبطالها. أنا أتحدث عن أغانٍ بنغمات عشت على إيقاعها قصصا مع أصدقاء لا أعرف اليوم إن كانوا يشعرون مثلى بحنين خانق حين يسمعون الأغنية صدفة على الراديو.
***
أقف إذا فى المطبخ فى يوم صيفى حار أعد لنفسى شيئا أمام شباك مفتوح وأسمع أغنية من بعيد وطرطقة أوانٍ. أقفز من يومى إلى يوم لا أتذكر مكانه إنما أحفظ كل تفاصيله فهى تفاصيل يومية حياتية تخنقنى فى هذه اللحظة تحديدا فى مطبخى اليوم حين تدخل على دون أن تستأذن. الراديو يفاجئنى بضيوف لم أرهم منذ سنوات، يفرض على وجوها أشتاق إليها لكنى لم أعد أرى أصحابها. الراديو يقدم لى هدية غير متوقعة، يهدينى لحظة بعيدة مغلفة بأغنية دويتو كنت قد نسيتها أصلا لكنى أردد الآن كلماتها.
***
ها أنا فى بيت صديقة لم تعد موجودة، نراجع معا لائحة المدعوين إلى عرسى ونتأكد أن لكل منهم بطاقة دعوة. «على الصوت شوى بحب الأغنية» تقول الصديقة وتدندن اللحن. اليوم فى السيارة ومع النغمات الأولى للأغنية أنتقل إلى غرفة الجلوس تلك وأسأل الصديقة لماذا رحلت باكرا؟ أسأل نفسى إن كانت رحلت أصلا فأنا طبعا تواصلت مع عائلتها يوم سماعى عن خبر رحيلها لكنى أشك فجأة بذاكرتى مع نغمات الدويتو حين تظهر لى بوضوح جالسة أمام أوراق تعد معى لائحة المدعوين. لقد استدعتها الأغنية من زمن بعيد وجاءت بها إلى اليوم فى المطبخ أو السيارة.
***
للراديو قدرة سحرية على استحضار لحظة بعينها أكون قد نسيتها أو لم أنتبه أن عقلى أو قلبى كانا قد سجلاها. لذا فحين ترمينى نغمات بعيدة على جدار قديم قبل أن أتعرف على الأغنية فأنا أشعر أولا ببعض الدوران حين تحوم وجوه وأصوات حولى ريثما أتذكر اللحظة وأعود إليها وأعيشها من جديد. ثم يخنقنى شعور بالحنين ورغبة بالبقاء هنا فى تلك اللحظة التى فرضها الراديو باختياره لتلك الأغنية.
***
الراديو يداعب قلبى، يتحدى ذاكرتى، يعيد لى علاقات فترت بسبب البعد والاختلاف. الراديو محضر خير، على الأقل لمدة ثوانٍ أتصالح خلالها مع أشخاص لم أعد أتحدث معهم منذ سنوات. الراديو يظهر لى تجاعيد ويجبرنى أن أتقبلها، أغنية تظهر دون استئذان تماما كما ألتقط صورتى فى مرآة لم أكن أعرف أنها مكبرة. فجأة تسقط عنى أدوات الدفاع وأجد وجهى عاريا وقلبى مفتوحا على زمن ظننته لم يعد يؤثر على. أنفصل عن واقعى لمدة دقائق أسمح فيها للحنين أن يخنقنى، أو بالأحرى يخنقنى الحنين دون أن يسألنى عن رأيى. ثم أعود بعدها إلى السيارة أو المطبخ وأتحسس يدى ووجهى وأنا أسأل الراديو «ليه عملت هيك؟».