بقلم :تمارا الرفاعي
أراقب منذ مدة دبابير تحوم عند شباك أراه من شباك مطبخى، تخرج كلها من مخبئها مرة فى اليوم وتحوم فى مساحة بين عمارتى والعمارة الثانية قبالتى. ترتطم بعض الدبابير أحيانا بشباك أو بجدار وتكمل رقصتها العصبية ثم تعود إلى كهفها داخل ركن من الاسمنت على زاوية الشباك. نفس الحركة كل يوم أراقبها من مطبخى. لا تقترب الدبابير من شباكى ولا تشكل أى خطر على إنما يزعجنى وجودها أو بالأحرى تزعجنى معرفتى بأنها تتواجد فى مكان قريب منى.
***
فهمت فيما بعد أن الشباك الذى تختبئ داخل زاويته الدبابير هو لشقة مهجورة، لم يسكنها أحد منذ سنوات ويبدو أن أصحابها قد نسوا أمرها. طلبت من حارس العمارتين أن يدخل إلى الشقة وينظر من الطرف الداخلى للشباك إلى المخبأ حتى نفهم الوضع. وفعلا دخل الحارس إلى الشقة المهجورة وتحرك داخل الشقة وقرب الشباك، وإذ بآلاف النقط السوداء تملأ الفضاء وترتطم بشبابيك العمارتين، عمارتى وتلك المقابلة لها حيث الشقة المهجورة. كان المنظر كما أراه فى برامج تلفزيونية تشرح عالم الطبيعة والحيوانات والحشرات، اجتياح للفضاء أمام شباكى ودبابير تطير وتحط وترتطم وتملأ المساحة بغضب وعنف.
***
لطالما استخدمت عبارة «عش الدبابير» فى نقاشات وكتابات عن مواضيع معقدة يُفضل أن تُترك ولا يتم المساس بها. يقال دوما أن علينا ألا نلمس عشا للدبابير ولا نحركه خشية أن يغضب من فيه فنفتح طاقة من اللسع والألم كنا بغنى عنها. فى العلاقات الإنسانية كما فى السياسة والشأن العام، أعشاش للدبابير هنا وهناك قد لا نراها إنما هى تتمدد وتأخذ مساحة وقدرة على الأذى أكبر مما يظهر للعين المجردة.
***
هل من الأعقل فعلا ترك الدبابير تبنى عشها وتقوى من وجودها أم أنه من الأكثر عملية أن نحاول إزالتها من أول الأمر فلا نترك مجالا لما قد يلسع ويضر؟ أسأل نفسى دوما إن كان من الأبدى أن أواجه شخصا فى كل مرة شعرت فيها بعدم الارتياح لموقف أو لكلمة بدرت منه. هل أتوقف فى كل مرة لتسوية أمر قبل أن يتفاقم أم أن ذلك سيكلفنى ويكلف من حولى توترا فى غير محله؟ طبعا ليس كل توتر مشروع عش للدبابير، وإلا فلن يعيش اثنان معا قط بسبب اللسع المستمر، إنما قد تتطور بعض المواقف بشكل سريع وغير مفهوم إن لم يتم فض الاختلاف أو على الأقل مواجهته سريعا.
***
أن أقول لشخص إننى غضبانة، أن أعبر عن خيبة أمل شعرت بها، أن أعترف أننى أحسست بالإهانة، أن أسأل صديقة لماذا استخدمت كلمة معينة أو أسأل إن كانت تقصد أن تجرحنى. أن أتقبل نفس السؤال من الصديقة، أن أعترف أننى تماديت وأخطأت باستخدام أسلوب لم تتقبله، أن أراجع ما قلته فى محاولة لاستدراك علاقة، هل هذه كلها أعشاش دبابير؟ أم أنها محاولات لفض العش قبل أن تسكنه الدبابير؟
***
المواجهات ليست بالأمر السهل، الشفافية أسلوب يطالب به الجميع إنما غالبا ما يشوبه الضباب لأن الحركة فى الضباب أسهل ربما. المباشرة كثيرا ما ينظر إليها على أنها افتقار للباقة، خصوصا ضمن ثقافة مركبة يتحكم بالكثير منها العيب والحرام ونظرة الناس لنا. ثقافة فيها من التركيب ومن التعقيد مقدار أعشاش كثيرة من الدبابير، لا نراها إنما تلسع. لكنها أيضا ثقافة فيها الكثير من حلاوة اللسان ومحاولات للالتفاف حول الاختلافات وتضميد الخلافات قبل أن تتحول إلى جروح فى الروح.
***
لذا فأنا أراقب الدبابير وهى ترتطم بزجاج شباكى وأكره صوت الارتطام وشكل الدبور الغاضب. أخاف أن أفتح الشباك فيدخل أحدهم إلى مطبخى. ربما كان من الأفضل أن أدع المجموعة بشأنها دون أن أتدخل وألا أطلب من الحارس أن يفهم ماذا يختبئ داخل الشباك. ربما يجب أن أترك الدبابير بحالها وأنظر إلى الجهة الأخرى من الشباك.
***
ربما كان يجب أن نمنع بناء العش وأن ننتبه أن ثمة عشا للشر بدأ يتشكل. ربما كان عليّ أن أتدخل قبل الآن وأحول دون بناء العش. ربما فى العلاقات الإنسانية هناك سر ما زلت أعمل على اكتشافه يتيح لى أن أعبر عن انزعاجى بشكل يحسن من العلاقة ويسمح للآخر أن يعبر عن انزعاجه منى أيضا. ربما ثمة مكان فى الوسط ألتقى به مع من أحبهم لنوقف تفاقما قد يلسعنا معا. ربما ثمة منطقة محايدة بعد الشفافية وقبل الضباب، أعبر فيها عن حزنى دون أن أنسف الصداقة، أستمع فيها إلى انزعاج الآخرين منى دون أن أغضب منهم.
***
محاولة لا تتوقف من معرفة الذات وافتراض أننى كما غيرى نريد الحفاظ على المودة وتجنب دخول أول دبور من خلال خرم صغير داخل طرف الشباك سوف يتحول إلى عش من شبه المستحيل التخلص منه دون أن أؤذى نفسى والآخرين. أراقب الدبابير تطير بعنف وترمى بأجسادها على شباك مطبخى وأذكّر نفسى أننى سأفعل ما أستطيع لمنع أول دبور من التسلل إلى زاوية فى حياتى، حتى لو كانت زاوية مظلمة غير مهمة.