بقلم: تمارا الرفاعي
لم يعد للعيد مكان محدد بعد أن رحلت الجدتان ورحل معهما بيتاهما المفتوحان يوم العيد. حين كانت الجدتان تترأسان العائلة من الطرفين، كلاهما بعد رحيل زوجيهما، كان للعيد عنوان: بيت الجدة، حيث لا يغلق الباب أول يوم العيد، بل يبقى مواربا يمكن دفعه من الخارج برفق للدخول إلى وسط المنزل ولقاء من هناك. العائلة المقربة كانت تلتقى على الغداء، مع ترك أماكن لمن سوف يمر دون ميعاد. لا مواعيد فى العيد، هو ذلك اليوم المفتوح كما هى مفتوحة البيوت القلوب: يمكن الدخول إليها بشكل تلقائى دون سؤال.
• • •
بيت الجدة هو بيت العيد، ذلك المكان السحرى حيث يختفى الأطفال عن نظر الكبار، يخترعون ألعابا ويتقمصون أدوار أفراد العائلة من الغائبين، يغيرون من أصواتهم ويكتسبون حركات العمة أو قريب يزورهم مرة فى السنة، غالبا فى العيد. بيت الجدة مكان يرتبط العيد برائحته، مزيج من روائح المطبخ وعطر الخالات وخزانة الجدات، فلخزانتهن رائحة صابون الغار ورائحة حكايات يرددنها كل عيد. هل للحكايات روائح؟ نعم، على الأقل حكايات الجدات تحمل رائحة سنوات من الأمومة والمدارس ورعاية الزوج، حكايات الجدات فيها شخصيات أصبحت مألوفة رغم رحيلها قبل أن نقابلها أصلا.
• • •
فى العيد تتداخل القصص والوجوه، أشخاص لا يجمعهم سوى بيت الجدة فى العيد. تتداخل أيضا القصص فى العيد فيعود من رحل إلى الحياة هنا الآن، فى بيت الجدة. يسمع الأحفاد عن مغامرات تقترن تفاصيلها بأسماء ناس لا يعرفونهم. يترحم الكبار عليهم فيترحم الصغار أيضا، يرددون ما يسمعونه. تتشابك القصص كقطعة نسيج تظهر فى هواء الغرفة، تطريز محبك بألوان زاهية تغطى المكان دون أن ينتبه من فيه. تخيلوا معى نسيجا من الحكايات، نسيجا سمعيا ملونا، تفاصيل حمراء وزرقاء وصفراء تتضافر فى مقطوعة منسوجة من قصص تعود يوم العيد. يمسك كل من فى الغرفة بطرف يحيك قصصه عليه.
• • •
هكذا إذا يشد كل فرد من العائلة طرف النسيج وكأننا نفرد ملاية شفافة على سرير كبير نجلس عليه معا يوم العيد حول الجدة. على السرير مخدات كثيرة مزركشة نتكئ عليها بعد الغداء بانتظار الشاى. تهدأ الكلمات وينعس الحضور فهذا وقت القيلولة حتى أن الصغار أنفسهم يترددون قبل الكلام، إذ نعرف جميعا متى نتوقف قليلا.
• • •
لحظات ويفتح أحد كبار العائلة محفظته: هذه علامة القمة، قمة الانتظار والترقب، قمة العيد. هذه قمة العيد، هذه لحظة العيدية. يعدل الأطفال من جلساتهم، ينتظرون أن يصل الخال أو العم إليهم ليضع فى يدهم عملة ورقية يفردها الأطفال فى أيديهم وجيوبهم طوال النهار. السر هو أن يتلقى كل الأطفال المبلغ الإجمالى ذاته منعا للخلافات ومنعا للحرج بين الكبار، هى عملية حسابية دقيقة ونبيهة يعتمد عليها توازن العائلة الممتدة.
• • •
أحكى لأولادى عن بيت الجدة كما عرفته فيستغربون تواجد الكثير من الأقارب فى مكان واحد. أطفالى بعيدون كل البعد عن ذلك العيد الذى أصفه، وألمح فى عيونهم بعض التشكيك تماما كما كنت أظهر تشكيكا يوم العيد أمام قصص الكبار. أؤكد لهم أن العيد هو اجتماع ثلاثة أجيال فى بيت واحد. أصف لهم تجمع نساء العائلة على اختلافهن وخلافاتهن التى يضعنها جانبا ريثما يعلقن على فلان وفلانة أثناء رشفهن للشاى، هذا طقس من طقوس العيد المقدسة.
• • •
أشرح لأطفالى أن لا مواعيد يوم العيد، يبقى الباب مواربا على الحارة ويدخل من يشاء فيلقى السلام لقاء فنجان من القهوة وحبة معمول قد يأكلها أو يأخذها معه فى منديل من الورق، إذ من العائب أن يخرج الضيف دون تناول كعكة. يطالب أولادى بالعيدية، وأفهم صعوبة تصورهم لبيت الجدة وزحمة الحضور، بالمقارنة مع فهمهم لعملة ورقية يحصلون عليها بمناسبة يوم لا يعنيهم كثيرا أصلا. أناولهم العيدية إذ قد تكون هى آخر ما أشرحه لهم عن العيد ويفهمونه. يطلبون أن نتصل بالجد والجدة ليشكروهما على عيدية وصلتهم من خلالى.
• • •
أدوس على الرقم فيأتينى صوت والدى. العيدية هى أن أتصل بمن أحب عبر القارات وأجدهم بخير، أن أسمع صوت أبى وأمى وأسألهما عن يومهما وأنا مطمئنة أن صحتهم جيدة. العيدية هو حديث مع صديقة دخلت عاما جديدا سجلت له أحلاما سوف تحققها. العيدية هى يوم تشرق فيه الشمس وكأنها تهتف للعالم أنها زعيمته دون منازع حتى لو تغنى الشعراء بالقمر: لا أحد يزيح الشمس عن عرشها مهما حاول. العيد هو يوم أشرح فيه لأولادى كيف كان اللقاء فى بيت الجدة فيكملون هم سرد التفاصيل لأنهم حفظوها حتى لو لم يعيشوها.
كل سنة وأنتم بخير وصحة وسلامة.