توقيت القاهرة المحلي 06:36:58 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الوطن بناسه

  مصر اليوم -

الوطن بناسه

بقلم :تمارا الرفاعي

أعود إلى مدن حفظت تضاريسها تحت قدمى على مدى سنوات من الهيام المقصود وغير المقصود فى أزقتها المكتظة. أتحسس طريقى بقلبى قبل عينى فلا أتوه. أعرف أن ثمة شارع ضيق يقف عند ناصيته بائع ورد شهدت انتقاله من الطفولة إلى اليفع فالرجولة وهو يضحك ضحكة مشرقة كشمس المدينة التى لا تغيب. أشم ما يعيدنى إلى ليال قضيتها أدهن على وجهى طبقات من روائح هذه المدينة: رائحة الزحام والعرق على جبين أولادها، رائحة الخبز الطازج حين يفرده البائع والمشترى حتى يبرد قبل أن يضعاه فى الكيس، رائحة عادم السيارات ودخان المصانع، رائحة مدينة أميزها بأنفى حتى حين أغمض عينى وأفتحها فى المدينة بعد أشهر من الغياب.
***
أعود إلى مدن مهترئة تشبه أبنيتها ثوبا رثا تحاول أن تخفى تحته التعب والكهولة. تجاعيد المدينة ازدادت بشكل مرعب أثناء غيابى، أم ترانى محيت التجاعيد من ذاكرتى تماما كما فقدت صورة جدة أو قريبة قبل أن تموت، واحتفظت فى قلبى وفى كلامى بصورتها فى صباها أو فى أولى سنوات تقدمها فى السن.
***
أواصل مع المدينة حديثا يطول مع شوقى لها. أعاتبها على ابتلاعها أبناءها فترمقنى بعجز وغضب لم تعد تقوى أصلا على أن تعبر عنهما. تماما كما امتنع والدى عن عتابى وابتعد تماما عن مساحتى عله يتفادى انفجارى المؤجل. أنا لم انفجر إنما أكلنى الغضب من داخلى أثناء الزيارة حتى خلت أننى قد أموت أثناء نومى بسبب شحنة عالية من الخيبة.
***
تلك الأماكن التى تتخلى عنى وأشتاق إليها فأعود مهرولة وتحتضننى عبر رائحة لا أميزها فى الأول ثم أعرف أنها رائحة الموت. موت بطىء يسحب منها الحياة نفسا بعد الآخر. تلك الأماكن التى فتحت لى بيتا فأعلنتها وطنا ها هى اليوم كقط يلعق جرح ينزف. جرح الأماكن جرحى أيضا، يخف ألمه كثيرا مع البعد إنما ينفتح شريانه بعد يوم من هيامى فى الشوارع فيتملكنى غضب لا أعرف أين أتوجه به دون أن أؤذى من حولى.
***
ها أنا أودع مدينة أخرى كنت قد اخترتها وطنا بعد مدينتى. أعرج على ناصية بائع الورد وأستنشق ألوانها علها تغطى على السواد فى قلبى. طبقات لا تنتهى من حزنى على نفسى وعلى من حولى ليس لسبب غير أننا اخترنا أن نحب أماكن لا تحبنا لكنها لا تسمح لنا أن نمشى ونتركها فبقيت ملتصقة على جلدنا.
***
فى المدينة الخانقة أتأمل وجوها تجلس فى الحافلة عند إشارة المرور وأتساءل عن أحلام كبيرة أمسكتها بيدى فى صباى: سوف يتغير العالم، نحن نستحق أكثر من مدن مهترئة لا تأبه بأولادها. فى العيون تعب وفى القلوب أحزان سنوات من التنقل فى شوارع المدينة المكتظة على أمل أن تشرق الأحلام عن أيام أكثر رأفة بالناس.
***
على الأرصفة المكسرة أتعرف من جديد على ملامح ألفتها، دكاكين وأصوات باعة ما زالوا يتغنون بالكعك والخضار والفاكهة. ألوان وابتسامات ترتسم فى فضاء المدينة الرمادى فتخفف من ثقل ما حولى. أسلم على صديقة وأشترى قطعة حلوى من مكان لم تتغير رائحته ولا البائع فيه.
***
المدينة بناسها، أسمع صوتا فى داخلى يردد أننى بخير طالما ناسى بخير. هل هم بخير؟ أم أنهم قلقون وتائهون مثلى فى مكان لم يعد يشبههم لكنهم يتمسكون بابتسامات بائعين عرفوهم منذ سنوات طويلة فتخيلوا كما أتخيل أنا الآن أن ما أحببناه فى المدينة ما زال على حاله، ينتظر لقائى كما انتظرته أنا؟
***
الوطن بناسه. أعود إلى أوطان تمضغ ناسها ثم تلفظهم، أسمع قصصا أتمنى أن يعود بى الزمن إلى لحظة ما قبل أن أسمعها وأضغط بيدى على أذنى كى لا أسمعها، كى لا أترك المكان بصحبة القصة، ستتحول التفاصيل إلى أيادٍ ستمسك برقبتى وتكبل يدى حين أنام. الوطن بناسه وناسه تعبت أو رحلت. ضحكة تكسر جمود المكان فأسترخى لثوانٍ معدودة قبل أن تعود الأيادى لتخنقنى أثناء النوم.
***
أنا أيضا كنت من ناس الوطن يوما ورحلت. وها أنا أرحل مرة أخرى عن وطن اخترته كمحطة حاولت جذورى أن تستعيض فيه عن تربتى هناك، فى مكان آخر. مدن كانت أوطانا بسبب ناسها الحلوين. ما زال بعضهم فيها فصرت أسميهم الوطن. هم فعلا الوطن فى كل حديث أكمله معهم فأتصالح قليلا مع المكان. لا أعرف إن كنت سأعود قريبا لذا فأنا أشرب كل كلمة من الحديث وكأننى أبتلع إكسيرا سحريا لن يسمح للمكان أن يموت فى داخلى. كلمات من ألقاهم هنا على عجلة هى أكسير مدينة تقاوم الموت كل يوم. صداقاتى هنا هى درع أحمى نفسى به من السقوط فى ثقب أسود ينتظرنى عند كل ناصية.
***
الوطن بناسه فعلا، لأنى دون لقاءات خاطفة قد أكتب ورقة نعوة لعلاقتى بمكان لم أعد أشعر أنه وطنى.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الوطن بناسه الوطن بناسه



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon