بقلم : تمارا الرفاعي
يفاجئنى عيد شم النسيم فى مصر كل سنة ببهجته وطقوسه وتعلق من حولى به. أكتشفه كل عام من جديد من خلال قصص أسمعها من الأصدقاء وألوان تظهر من حولى فتغطى على اللون الرمادى الشائع فى المدينة. تحضر سعاد حسنى كل الاحتفالات بأغنيتها الشهيرة عن الربيع، وترفرف فساتين البنات الملونة على مراجيح تطير إلى السماء وتعود وسط ضحكاتهن. يوم شم النسيم لونه وردى وأصفر وأخضر فستقى وأصفر فرح وأزرق سماوى يذكرنى بألوان الملبس فى العيد. هو يوم يحضره أيضا عبدالحليم فتراه يحوم فى الخلفية قبل أن يتمركز وسط خشبة المسرح ويعلن «هل الربيع الجميل». هو يوم يلتقط فيه الناس صورا لأطفالهم بين الزهور وللجدات وهن جالسات على مفارش على العشب.
إن كان بإمكانى أن أختار يوما فى السنة يعبر عن مصر التى فى خاطرى (وفى خاطر الكثيرين) فهو يوم شم النسيم. وبصفتى مصرية فخرية، بحكم زواجى من رجل مصرى، فأنا أجزم أنه لا يمكن لغير المصريين أن يستوعبوا أهمية يوم شم النسيم فى الثقافة المصرية إن لم يعيشوه فى مصر وليس فقط مرة واحدة إنما قد يحتاجون إلى أن يحتفلوا به عدة مرات حتى يلموا بعاداته وبتركيبة طقوسه وأصولها.
شم النسيم عيد غير كل الأعياد. يذكرنى بعيد الشكر فى أمريكا الشمالية، فهو عيد لكل المصريين، كما عيد الشكر لكل الأمريكيين. عيد لا يحدده دين أو طائفة، عيد عابر للأديان والمعتقدات والطبقات الاجتماعية، عيد يمسح على الوجوه فتبرق العيون وتبتسم الأفواه وتدندن نغمات ترقص على إيقاعها القلوب. وكما عيد الشكر فى أمريكا، فقد ارتبط شم النسيم بموسم الحصاد، وإن كان الاحتفال الأمريكى فى آخر الموسم بينما العيد المصرى يبشر ببدايته فى الربيع. فى الحالتين هناك إشارة إلى قطف ثمار العمل والاحتفال بالطبيعة السخية وبعالم كريم، نتناسى ولو ليوم واحد فقط قسوة باقى الأيام فتبدو الأزهار وكأنها قررت أن تتفتح جميعها فى ذلك اليوم تحديدا.
كثيرا ما أتساءل عما إن كان ممكنا أن تزدهر المنطقة العربية، والتى يحب أهلها أن يسموها دوما «مهد الحضارات»، بازدهار مجتمعات لا تضغط أديانهم على قلوبهم. أعيد تشكيل المنطقة فى عقلى مرة بعد مرة كمن يفكفك لعبة مركبة ويحاول إعادة تجميع القطع عله يصل إلى منظر أجمل. طبعا فى لعبتى الذهنية الكثير من السذاجة، إذ لا يمكن إعادة تشكيل مجتمعات يمارس فيها كل فرد طقوسا تناسبه دون أن يكون هو نفسه مطمئنا أن عبادته لن تستخدم ضده. وفى منطقة اشتد فيها استخدام المرجعيات الدينية على اختلافها من أجل أهداف سياسية، لا أعرف إن كان ممكنا أن ندوس على زرار أشبه بزرار الحاسوب الذى يطفئ الآلة ويعيد تشغيلها فتظهر على الشاشة لوحة جديدة لا دم فيها ولا صوت بكاء يخرج منها. هو زرار إن دسته سوف يغيب استخدام الدين كذريعة للتحكم والسلطة. هو زرار يعيد تشغيل الحاسوب المركزى بعد أن يمحو ملفات المنافسة الطائفية وبعد أن يعيد عداد من مات بسبب الاقتتال الدينى إلى الصفر ويربطه هناك فلا يتحرك.
أنا أضغط الزرار فأرى بلدا مزدهرا بثقافاته وأديانه، بلدا فيه مجموعات عرقية تعيش تحت سقف واحد يضمن لها حقوق أفرادها كمواطنين. هو بلد يشعر فيه كل فرد أنه مهم لأنه مواطن وليس لأنه ينتمى للمجموعة المهيمنة عدديا أو ثقافيا، إذ لا مجموعة تهيمن على الأخريات. هو بلد لا يشعر فيه فرد قرر أن يكون مختلفا أنه تحت المجهر طوال الوقت، وأنه هدف للتشهير والاستهداف حين يقرر ذلك شخص آخر.
أضغط الزرار فيظهر حى سكنى يسكنه محمد وزينب وأنطوان وجورجيت وعلى ومكاريوس وموسى وبنيامين وهيفين وسيوار والكثيرون ممن لا يرتبط اسمهم بدين: رامى وهبة وليلى وزياد وحنين. فى الحى السكنى هذا يعرف كل جار خلفية جيرانه ولا يدعى أحد أنه لا يعرف، إذ فى الحى حس عال بأهمية أن يحافظوا جميعا على توازن يوحدهم فى أدوارهم المتكاملة ضمن مجتمعهم. ذلك التوازن لا يأتى بتجاهل الأديان بل بالعكس، هو توازن أساسه الاعتراف بجميع السكان. فى الحى السكنى هذا بعض النميمة التى تخرج من على شرفات العمارات كما فى كل حى، عن كرم فلان، وبخل الآخر، وعناد أحدهم ولؤم إحداهن وجمال الأخرى، فهو حى ككل الأحياء وليس منزها من التفاصيل الحياتية اليومية. إنما هو مكان لا يخاف فيه جار على أولاده من انتقام أولاد غيره منهم بسبب مخزون تاريخى من الحقد، ولا تهرع فيه أم لإخفاء ما يدل على اعتقاداتها درءا منها لاعتداء محتمل لا دافع له سوى كره أحدهم لجدودها.
فى ذلك الحى السكنى القواعد واضحة وتنطبق على جميع السكان: حقوقهم متساوية ضمن قانون يشملهم جميعا على اختلافاتهم. وواجباتهم لا فرق بينها إذ أنهم جميعا ينتمون إلى الحى فيعملون على صونه وبذلك يربطهم بالحى عقد واضح وقع عليه الطرفان. العيد القومى فى الحى هو عيد شم النسيم. أما الأعياد الأخرى فلكل بيت يومه هو حر فى اختيار طقوسه والبيوت الأخرى حرة بالاحتفال معه إن أرادت ذلك. لن يعكر على جو الحى أى قصص متوارثة فقد طوى السكان الصفحات القديمة بعد أن داسوا على زرار إعادة التشغيل.
نقلا الوطن االقاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع