بقلم :تمارا الرفاعي
لم يعد للعواطف مكان تلجأ إليه، يبحث الحزن والفرح عن ركن يتفجرا فيه فيرتطمان بجدران فرضها العالم ما بعد الجائحة. لا مجلس عزاء ولا احتفال بشخص أحبه. انكمش العالم فأصبح فى داخلى أتجول فيه وأدخل حاراته بحثا عن أصوات وأحضان لم أعد أجدها فى الخارج. أو هكذا يبدو لى العالم اليوم وقد عاد الأحمر يلون الخارطة بسبب فيروس لا يعترف بالحدود. كل بلد يغلق حدوده على من فيه وكل شخص يشيد جدران من حوله حفاظا على نفسه.
***
أتساءل اليوم إن كانت نهاية العالم مختلفة تماما عما تخيلتها. لن يكون هناك انهيار للأبنية ولا طوفان يسحب معه البشر. لن ترعد السماء وتنشق البحار لتبتلع اليابسة. على العكس، يبدو أنه تشرذم وتفكك، يقع الأفراد من علو حياتهم كأوراق شجر تتساقط فى الخريف تحت المطر. تنطفئ الأنوار ويبدو العالم وكأنه مسرح هجره رواده بعد أن شاهدوا فيه مسرحية ملأ ممثلوها الخشبة فغنوا ورقصوا وصرخوا وحيوا المشاهدين، ثم انسحبوا وخفتت الأنوار فبدى كل شىء رمادى اللون.
***
خشبة المسرح ما بعد الملحمة شديدة البرودة، وها هو عامل وحيد يمر بين بواقى الديكور بمكنسة قديمة لا تسحب ما على الأرض. حركته بطيئة وعيناه شاردتان وهو يمشى من حيث كان الصخب والحياة منذ دقائق. هى أمٌ لا تعرف متى سيزورها أولادها. هو أبٌ بات وحيدا على مسرح حياته فقرر أن يمسك بالمكنسة عله يجد بين باقى الديكور صورة أو رسالة من ابنه البعيد.
***
تطفأ أنوار المسرح الصارخة وتتحرك الأم على نور آخر مصباح يتدلى من السقف. كانوا هنا منذ لحظات وها هى لم تعد ترى سوى الخشبة. الدومرى: أتذكر هذه الكلمة اليوم وأنا أتخيل المسرح المهجور. الدومرى هو من كان يمر بالحارات القديمة يطفئ الأنوار بعد أن ينام السكان.
***
هل بدأنا بالتساقط فعلا من على أشجارنا منذرين بنهاية عالم ستكون بطيئة إلى حد الألم؟ نراقب كل ورقة تسقط ونحن نأمل ألا تكون ورقة شخص نحبه؟ أنا أعزى الأصدقاء كل يوم برحيل يرهقنى ويرهقهم. أعزيهم من خلف شاشة أتخيل أنها مصدر الضوء الوحيد فى غرفتى المظلمة. شاشتى صارت ملاذى ولكنها أيضا جهاز تعداد من يرحلون وصفحة الوفيات العالمية.
***
كتبت صديقة أخيرا وصفا دقيقا لمجلس العزاء شديد الصرامة فى دمشق. هناك، حتى للعزاء بروتوكول تعملت منذ صغرى خطواته. وصفها يعيدنى إلى سنوات تبدو الآن وكأنها خلف جدار الجائحة. الحدود مغلقة وتحركات الناس صعبة. عزاؤنا وفرحنا صار خلف الكاميرا. أتمسك بكل كلمة كتبتها صديقتى وأستعيد مجالس عزاء حضرتها. أقارنها بفقر حزنى اليوم: حزنى فقير لا مجلس له. حزنى وحيد من خلف شاشة لا تساعدنى على أن أضم من أحب وأعزيه. فرحى أيضا يتيم رغم وفرة الصور على وسائل التواصل الاجتماعى.
***
فى رأسى أغنى منذ الصباح «طلوا حبابنا طلوا، نسم يا هوا بلادى». لا بلادى قريبة ولا أحبابى يطلون. أنا هنا أمام شاشة أتفاعل مع من فيها دون لمس أو قبلة. أما هواء بلادى فهو مفعم بكلمات الشوق لمن هناك ومن أصبحوا وجوها وأصواتا فى الشاشة.
***
نهاية عالم لم أحضر نفسى على بطئها ورتابتها المقيتة. قيود تزداد كل يوم تمنعنى من الوصول إلى الناس والإمساك بيدهم يوم حزنهم. «كأنها نهاية العالم» عبارة لطالما دلت على دمار وضجيج يصم الأذان. ها هى نهاية العالم تأتى دون صوت. نقرات على الحاسوب وجرس للرسائل على الهاتف. ما هذه النهاية البائسة التى حتى لا نحيب فيها؟ هل قطع أحدهم أيضا الصوت عن المسرح؟ صمت مطبق بعد مسرحية راقصة طار فيها الممثلون من أماكنهم على المسرح وتنقلوا بين الجمهور ثم اختفوا فجأة واختفى الجمهور فبقى الأب وحيدا يلملم ذكرياته ويحاول أن يحتفظ بأصوات الأحفاد فهم لا يزورونه.
***
قد أستيقظ فى الصباح فأجدهم كلهم أمامى، ممكن. تسطع الشمس من جديد وأسمع صوت بائع الجرائد وطرطقة الأوانى من مطبخ الجيران. ثم تغنى أسمهان من راديو قريب فأطل من الشباك لأرى الأشجار مزدانة بأوراقها. ربما لم ينته العالم فى الأخير. ربما يعود الممثلون وتتدرب الفرقة على مسرحية جديدة، على عالم جديد أعود وأجلس أمامه لأتأمل ما تغير فيه. أجلس فى صف الجمهور أراقب من يدخل ريثما تبدأ المسرحية.
***
ربما أخذ مسرح الحياة استراحة قبل أن يستيقظ من جديد. ربما لم تكن نهاية العالم لكنى سوف أعتبرها بروفا على نهايته. لن أرمى أى شىء فقد تعلمت وأنا أراقب الـ «دومرى» أن أحتفظ بالصور والأصوات ولا أفرط بها. لا أريد أن أكون من يطفئ الأنوار بعد نهاية العالم ففى ذلك وحدة قد تقتلنى. ستكون جيوبى ممتلئة بما عشته وما وجدته على طرف الطريق، سوف أسحب من جيبى قصصا إن وجدت نفسى وحيدة فى مسرح هجره ممثلينه ورواده. ربما ليست نهاية العالم. ها أنا أراقب.