بقلم : تمارا الرفاعي
تتوتر بعض العلاقات الاجتماعية وقت الأزمات السياسية بنفس القدر الذى تتوثق فيه علاقات أخرى. قديما كانت جدتى تقول «العتاب على قد المحبة»، أى أننا نسمح لأنفسنا أن نعاتب من نحب بقدر حبنا لهم، فكل ما زاد الحب زادت التوقعات، وبالتالى زاد أيضا غضبنا ممن نعتبر أنه لم يبادلنا توقعاتنا بأفعال.
أظن أن ما يزيد من توتر العلاقة هو استبدال الكثير من اللقاءات الإنسانية أو حتى المكالمات الهاتفية برسائل نصية تنتزع من المضمون النظرة، الابتسامة أو اللمسة، وتستبدلها بكلمات جافة تظهر على الشاشة ونرد عليها بسرعة دون أن نعيد القراءة. أن أرد على رسائل كثيرة فى الوقت الذى أنشغل أيضا فيه بشيء آخر. أعيد أحيانا قراءة ما أرسلت لاحقا فأعد نفسى ألا أرد مرة أخرى قبل أن أنظر فى كلماتى وأحاول تقييم أثرها على من سوف يقرأها. ثم أنسى الوعد طبعا وأعيد الكرة وهكذا.
***
من زمان، كان يقوم كبير القوم بتنظيم جلسات صلح بين من اختلف من الناس، وكانت العملية تتم وفق أعراف
وأصول. اليوم، ومع إمكانية إيصال أى رسالة على هيئة سطر، بتنا أكثر قابلية للتوتر، أو على الأقل بت أنا أكثر جاهزية لإرسال رد مقتضب وجاف، قد يراه المتلقى على أنه قاس وغير متسامح.
دعونا نتخيل أن سوء فهم قد نتج بسبب موقف ما منذ خمسين سنة، أو حتى خمسة عشر. كيف يا ترى كان سوف يتم حل الأمور؟ من الممكن أن يمتنع الشخصان عن اللقاء أو الكلام حتى تهدأ النفوس. أو من الممكن ألا تهدأ النفوس بسبب مساهمة من هم حول الشخصين فى القصة. من هنا نزيد تفاصيل ربما لم تحدث إنما استنتجناها. من هناك نجد ضرورة لإضافة الملح والفلفل كما نقول فى الشام فنزيد النار اشتعالا بقصد أو بدون. قد لا يلتقى الشخصان فعلا فتكبر الفجوة حتى يتدخل أحدهم فى محاولة لبناء جسر بينهما علهما يتفاهمان.
***
اليوم تضغط خيبات الأمل الناتجة عن الأوضاع السياسية والاقتصادية على الكثيرين، فتزيد حساسية القلب تجاه المنغصين والمنغصات من الناس. جملة من عدة كلمات تضيء شاشة الهاتف أو تلعلع علنا فى الفضاء الافتراضى على مرأى من الأصدقاء المشتركين فتلتهب الجراح. اليوم من الوارد أن يتحول أى حديث افتراضى إلى شجار، إذ أن للشاشة قدرة غريبة على انتزاع الحياء. أو ربما تطورت فعلا العلاقات فى مجتمعات لطالما نظمت العلاقات فيها مجموعة من القواعد الصارمة غير المكتوبة.
يقول أبى إن منظومة ثقافية قد انهارت فى السنوات الأخيرة فتغير مع الانهيار أسلوب للحديث كان معتمدا أو كان جيله معتادا على مراعاته. لا أحب كلمة انهيار فهو تغيير مستمر وعملية ديناميكية قد يرى البعض أنها أساءت للعلاقات بينما أرى أنا أنها وضحت بعض الأمور. أزعجنى فلان؟ سوف أرسل رسالة نصية صغيرة موتورة وسريعة قبل أن أمحوه من عالمى الافتراضى.
***
أظن أن كثيرا مم كان يضع ضوابط لما يمكن أن يقال قد اختفى مع تحول الصداقات أو العلاقات إلى جمل إلكترونية تصلنا عن طريق رنة على الهاتف بدل أن تصلنا بصوت مرسلها. لكن بالمقابل، ها هى صديقة تظهر دون استئذان ودون إنذار، تمد لى يدها وتسحبنى من غرفتى الافتراضية المظلمة فأقف لثوان وأنظر إلى جملتها وكلماتها التى لا أفهمها فى بادئ الأمر، ثم أفك لغز معانيها. هى تعطينى حلولا، هى تعرض على خيارات تخرجنى من الضياع. هى صديقة لا تفرض على الصداقة، هى موجودة وموجودة حولى دون أن أشعر بضغط حضورها. خفيفة كالريشة، حنونة كظل شجرة فى يوم حار. تظهر كالشمس من خلف غيمة فيربت صوتها على همومى.
هى سمعت ندائى فظهرت، التقطت كلمات تمتمتها الليلة الماضية وأنا أقف على شرفة بيتى. كنت قد همست كلماتى فى ليل الحى الصامت، وقفت وحيدة أنظر إلى شباك بيت على الطرف الآخر من الشارع. تركت قصصى فى بيتى وحاولت قراءة قصص الجيران لكنى قصتى سرعان ما حاوطتنى وأعادتنى إليها دون مهرب.
لا مفر من عينى صديقتى حين تنظر داخل قلبى ثم تفتحه لترى ما يحزنه، تبحث فى زواياه عن تفاصيل قد أكون أخفيتها عنها فلا داعى أن أثقل عليها. وهكذا ببساطة يخرج الكلام وهى تقرأ. عجيبة صديقتى، يتهيأ لى أننى أمضى معها وقتا طويلا لكنى أعود فأكتشف أن لقاءاتنا ليست بالكثيرة خارج الشاشة.
***
يحتل الفضاء الافتراضى مساحة كبيرة من يومى ويحل محل لقاءات وأحاديث طويلة. يفرض إيقاعا سريعا ومشاحنات متوترة كما يسمح باعترافات ما زال من غير الممكن انتزاعهها وجها لوجه. سوف يختفى قريبا الهاتف الأرضى تماما وقد تشح اللقاءات أكثر فأكثر خاصة مع انتشار أعضاء مجموعات كانت متماسكة فى بلاد متباعدة. أخاف من استبدال الإنسانى بالافتراضى رغم أن كثيرا من الإنسانى قد توثق بفضل الافتراضى فى السنوات الأخيرة.
يبقى سؤالى: إن عشت يوما فى بلد هادئ، هل ستهدأ أيضا علاقاتى بالناس وتخف وتيرة الإجابات الجافة ووقع الكلمات الموتورة؟ وهل أعود للقاء الناس وجها لوجه وأرمى الهاتف الموتور بعيدا؟
نقلاً عن الشروق القاهرية