بقلم :تمارا الرفاعي
قشة من ذهب هى التى أتمسك بها وسط الإعصار. قشة اختلط فى معدنها أشخاص قلوبهم من الذهب الخالص. هى قشة تلمع تحت العاصفة فلا أفقدها إذ أراها طوال الوقت حتى إن اختفت للحظات تحت الموج. العاصفة من حولى تشتد، الأمطار تغطى على الرؤية أمامى، يرتفع الماء من حولى وحول الأصدقاء فيبحث كل منا عن قشته.
***
قشتى عصاة رقيقة لكنها صلبة، نحيلة إنما قوية، تحمل على جدارها الخارجى وجوها أطمئن إليها وأستكين، وأصواتا تعيدنى إلى اليابسة قبل أن أغرق. هى قشة تطفو فوق الماء وتلمع تحت البرق لتتحداه: هل يشق البرق السماء؟ ها هى قشتى تشق العاصفة وتطير نحوى.
***
كعصا السحر أمسك بقشتى الذهبية وألوح بها أمام وجهى فتضىء الفضاء من حولى لأرى ما أمامى. من هنا طريق أسلكه فأصل إلى استراحة، يرافقنى فى الطريق وجه أمى وهو يخرج على شكل سحابة من الدخان فوق العصا. تختفى أمى فيظهر أخى وتضىء العصا مساحة أوسع من حولى بينما يعطينى هو إرشادات واضحة ويشرح لى الخطوات بشكل محدد لا لبس فيه. أكمل طريقى على إيقاع كلماته.
***
أتوقف قليلا لأراقب العالم: إعصار بدأ منذ شهور كمارد خرج من القمقم واكتشف قدرته على الأذى فقرر أن يستخدمها كلها فى سنة واحدة. بصراحة لم يقترب منى المارد كثيرا إنما دماره الواسع لا بد أن يمسنى فالبشر متصلون والعالم مترابط. ألم نقرأ فى المدرسة أبيات الشاعر الفارسى سعدى الشيرازى حين قال: «بنو آدم جسد واحد، إلى عنصر واحد عائد (...) إذا أنت للناس لم تألم، فكيف تسميت بالآدمى». أنا أقف على طرف الإعصار وبيدى عصا ذهبية تحمينى، هى قشتى التى أتمسك بها وأرى على جدارها انعكاس وجهى طوال اليوم.
***
تتغير تعابير وجهى بحسب حال العالم من حولى. أقلق طبعا ثم أسترخى قليلا حين أسمع صوت أطفالى يخرج من العصا السحرية. ثم أتوتر حين تختفى ملامح أبى فأرى الهالة من حوله تنطفئ قليلا ثم تعود فأهدأ. أنسى أن ما بيدى هى قشة حتى لو كانت من الذهب الخالص وأحملها أكثر من قدرتها على التصدى للعاصفة أحيانا.
***
لكنها قشة من ذهب لا يمكن أن تنحنى. أقلد فرسانا استخدموا سيفهم فى معارك أسطورية فأحرك يدى وأحاول أن أضرب المارد بقشة ذهبية وأنا شبه متأكدة أنه سيسخر منى ومن القشة لكنه يبتعد عنى خطوات. هل فعلا أرعبته قشتى الذهبية ورآها عصا سحرية، وهى رقيقة، أنيقة تخرج أصوات أليفة ووجوه محبة؟
***
شمعة فى الظلام، قشة فى العاصفة، عصا سحرية وسط الشعوذة، طبعا بإمكانها قلب كل الموازين. تعويذتى وسط الضياع وطريق معبدبكلمات تعيد لنفسى الهدوء ولذهنى الصفاء. هى قشة من وجوه من أحب تماسكوا من حولى فطوقونى منعا لغرقى. يا سلام! ها أنا أطفو بدل أن أغرق، وفى يدى قشة من ذهب!
***
أظن أن لكل شخص قشته فى العاصفة. أنا قشتى الذهبية هى الناس، الأصدقاء، تلك الشبكة التى تمنعنى حبالها من أن أختفى فهى تسحبنى إلى سطح الماء. قشتى هى وجوه من أحب تظهر فى لحظة شعورى بالغرق. قد لا أسلم عليهم ولا ألتفت لهم بلحظتها، لكنهم القشة التى تلمع أمامى وتطلب أن أتمسك بها فأفعل.
***
أمشى وبيدى ذهب خالص أنتجته سنوات طويلة من الصداقات، ذهب خالص من العلاقات يتجمع بعضها كالإكسير فى قعر إناء لن يمسه الدهر. أنا أملك إناء من الذهب فيه مكيال قرن كامل من الوجوه والأصوات التى ترافقنى ولا تتركنى. إنائى الذهبى يلمع ويجذب الانتباه، ها أنا أجلس قربه وأنتظر الزوار.
***
بين من أحب ومن أستظرف ومن يطيب لى الحديث معه، تمر العاصفة من قربى وأتلقى بعض القطرات دون أضرار كبيرة. لا يحق لى أن أتذمر أبدا، فمن ذا الذى يستاء وهو يمسك بالذهب الخالص؟ هو قطعا شخص جاحد لا يعى مدى غناه. أجلس إذا على طرف الطريق وأسحب كرسيا أنتظر الزوار. أولنى أهلى إلى هذه النقطة وها هو صديقى الحكيم يستلمنى هنا فيعيد إلى بعض المنطق. دقائق وتصل مجموعة صديقات خفيفات الروح والدم فأضع قشتى جانبا وأستمع إليهن. تعود عائلتى إلى فضائى وحين أسأل عن وضع العاصفة لا يجيبنى أحد وكأن الموضوع لا يعنينا. حسنا لنكمل الحديث على ضوء القشة الذهبية.
***
قشة الحبايب، هكذا أسميها، قطعة من الذهب الخالص أستمع إلى رنتها مع كل وجه يظهر منها داخل سحابة من الدخان فينير ما حولى ويبعد عنى الظلام. أعصر قشتى لأمنعها أن تفلت منى فيدخل دفؤها إلى راحة يدى ثم إلى جسدى. قشة الحبايب تبعد عنى السوء وتحفظنى، هى كنزى على شكل عصا رقيقة قد تبدو هشة لكنها مصنوعة من ذهب.