بقلم :تمارا الرفاعي
ها هو موسم الأعياد يقترب بحذر، يجر أقدامه حتى عتبة حياتنا ويتوقف. هل يدق الباب فى سنة أطفأ أحدهم الأنوار علينا فيها؟ هل يرمى الموسم علينا ألوان الأحمر والأخضر والذهبى فيخفى تحتها سواد باقى السنة؟ يجرجر موسم العيد بهجته ويخاف أن أجرجرها بدورى إلى حزنى. يقف مسافة أمتار عنى ليقيم حالتى قبل أن يقرر أن يقترب أو يبتعد.
***
تعال أيها العيد، فأنا اليوم طفلة تؤمن أن النهايات سعيدة. أنا طفلة تنتظر أن تنتهى هذه السنة وتأخذ معها حمل 10 سنوات من التعب ألقى به أحدهم على كل ما حولى. أنا راضية وممتنة وأشكر الله والملائكة والخضر والشيخ محيى الدين والسيدة زينب وكل من يشكر. أنا راضية وحزينة، حزن سنوات من البالونات الملونة التى انفجرت كلها فجأة فى سنة صرت أشعر أن لا أحد فيها سعيد.
***
لنبدأ عدا تنازليا أرمى معه فى كل يوم قصة. ها أنا أعد قصصا بعدد أيام السنة المتبقية، وأقرر أنها لن تنتقل معى إلى العام الجديد.
هنا سنترك الجائحة، ما أبشعها من كلمة!
هنا سنترك انفجار بيروت، لتعود ست الدنيا مدللة وأنيقة.
هنا سنترك طوابير الخبز المذلة فى سوريا. سنترك كل الطوابير فهى كلها مذلة.
***
ابتداء من اليوم، على أن أقنع الأعياد أننا نستحقها، أن الأعياد ولدت فى هذه المنطقة حيث بدأ العالم. على أن أتحايل على اللون الذهبى عله يرمى بنثرات تبرق فى الظلام فتخفف من الوحشة.
***
يستحق العيد طفل يسمع عنه فى خيمة تحت المطر. تستحقه امرأة هجرها حبيبها فنظرت إلى وجهها فى المرآة ولم تتعرف على الوجه الكهل الذى أطل عليها. يستحق العيد أب رحل أولاده من البلاد وصارت حياته عبر تطبيق زوم يوما أو يومين فى لا سنة حين يهاتفه الأحفاد فى المناسبات.
***
موسم الأعياد يتعثر بخطاه هذا العام. لقد مل العيد من بؤسنا، وكيف لا؟ يبدو أن العيد، كما أشياء كثيرة فى الدنيا، تحب الناس الحلوة والبشوشة. لقد مل العيد من سنوات من التخبط نردد فيها أن لنا أحلاما ملونة فيأتى العيد ليكتشف أن لنا حياة بالأبيض والأسود.
***
التقيت أخيرا بشخص سألنى بعد جلسة أحاديث كثيرة إن كنت نفس السيدة التى تكتب مقالا أسبوعيا فى الشروق، فتلك المرأة أميل للحزن عن التى تعرف عليها للتو فى مناسبة اجتماعية. استغربت ملاحظته ثم اعترفت أن المقال مهرب، مكان يستوعب مشاعر الشجن والحنين التى أكنسها كل صباح عن جسدى قبل أن أخرج من السرير. أرمى هنا بالحمل وأنتظر. بئر عميق يتحمل دون ملل أو عتاب.
***
أذكر أننى زرت مرة بلدا أوروبيا بغرض العمل فأمضيت بضعة أيام فى مدينة ساحرة إيقاعها مريح. نظرت فى وجوه الناس فلم ألمح آثارا للغضب. سألت من التقيتهم هناك عن مصادر الكدر فلم أقتنع بالأجوبة. استغربت أن يكون ثمة بلد وديع لا تكدر صفوه أزمة سياسية أو انتهاك للجسد والروح، لا حوادث سيارات تذكر ولا أى حوادث أخرى أصلا.
***
كيف يعيش شعب حياة دون منغصات؟ سؤال جدى أطرحه من باب فضول شخص تنقل بين أماكن تقتلها الحروب وتخنقها الأزمات السياسية وتعكر جوها أحداث اقتصادية واجتماعية تعرقل تقدمها.
***
ربما قرر العيد أنه فعلا تعب ولن يزور إلا بلاد تستحق أن تحتفل بما أنجزته وما وفرته لشعوبها.
***
ونحن؟ كيف نقنع العيد بضرورة أن يزورنا ككل عام ويرش الفرح على أطفالنا كالسكر ليلعقوه حين يلتصق بالأصابع؟
***
لنحاول من جديد. نحن منطقة الألوان والنغمات، نحن أهل الأعياد والأفراح، نحن قلوب لا تتوقف عن الحب وعقول لا تنام رغم الإنهاك. نحن زخارف ومنمنمات وهمهمات يسمعها العشاق عند الغروب. نحن بيوت يغطى شبابيكها ضباب برائحة القرفة من إبريق الشاى فى الشتاء، وشرفات تجفف عليها الفاكهة فى الصيف.
***
نحن العيد إن اقتنع أن يزورنا. أين ستجد أطفالا كأطفالنا يغفرون لك زيارة يتيمة ولا يحملون فى قلوبهم الصغيرة حقدا وكراهية؟ أين ستجد جدة تحيك لك كنزة من الصوف كل سنة منذ أن كنت فى المدرسة الابتدائية؟ أين ستجد أبواب الشقق مفتوحة فى العمارة وكرسيين من القش وسط الدرج بين طابقين لتستريح؟
***
موسم الأعياد ينذر برحيل سنة ويبدأ معه عد تنازلى أتمنى أن تمحى ذاكرتنا الجماعية حين تدق الساعة فى آخر يوم من السنة، فنستيقظ وقد اختفت تماما الشهور الماضية. فى اليوم التالى، لا أعرف ما حدث إنما أرى غمامة ذهبية فى السماء، ثم تلمع ابتسامة فغمزة. ربما فاتنى شىء لكنه لا يهم. اليوم التالى يمحو ما سبقه، أو هكذا أتمنى بينما أعد تنازليا ما تبقى من أيام هذه السنة. نحن أيضا بلاد تستحق الأعياد.