بقلم :تمارا الرفاعي
يحدث أن يتوقف العالم من حولى لحظات فألتقط أنفاسى، أنظر إلى الحدث من الخارج وأحاول أن أفهمه، تفلت منى الكلمات لكنى ألحق بها وأعيدها إلى داخلى حتى لا أعكر لحظة الجمود. فى دوامة ما يحدث من حولى منذ عشر سنوات لا أذكر أياما رتيبة أو راكدة، ربما لأنها لم تعلق فى ذاكرتى إنما على الغالب أننى لا أتذكرها بسبب زخم ما سبقها وما أتى بعدها. منذ أن قرأت منذ أيام عن افتتاح مشروع قومى فى القاهرة عبارة عن عجلة ضخمة تلف فى مكانها فيرى الجالس فيها المدينة من ارتفاعات متعددة وأنا أتمنى أن توجد عجلة مماثلة أطل من مقعدها على عشر سنوات مضت.
***
تخيل أن ترتفع وأنت على المقعد من الأرض حتى أعلى نقطة فى السماء فترى العالم من تحتك ومن حولك وهو يكبر وكأنه كاميرا مصور يكبر فيها الإطار حتى تفقد التفاصيل. أليست هذه تقنية فى التصوير، وأنا الضعيفة فى هذا الفن؟ أرتفع فأرى جموعا من الناس وأسمع هتافاتها تملأ الشوارع. مع كل درجة ترتفع فيها العجلة تكثر الحشود على الأرض وتنخفض الهتافات حتى يصبح باستطاعتى أن أرى مناطق بأسرها تختفى تحت الأرجل والأيدى والوجوه حتى لو لم أعد أسمع ما تقوله الأفواه.
***
عشر سنوات ارتفعت خلالها من على الأرض ووصلت إلى السماء ثم عدت إلى الأرض فوجدتها فرغت من الناس. أحوم فى شوارع مدن أقسم أننى شعرت بطاقة من فيها من مقعدى فى السماء لكنى لم أعد أجد عليها اليوم سوى أحلام تبعثرت وأصدقاء يحاولون لملمتها. أنا أيضا أجلس الآن على ركبى فوق التراب أحاول أن أجمع قطع أحلامى لأعيد لصقها.
***
أعيد تجميع الصور كمن يجمع قصاصات كتاب مزقه مخرب لكن صاحبه لم يرض أن يرميه. أعيد لصق القصص كما عشتها وسمعتها لأحكيها لأطفالى فى محاولة منى أن أشرح لهم ما شغلنى وكثير من أصدقائى فى السنوات العشر الأخيرة. أحاول أن أتذكر ما كان قبل تلك السنوات فأسترجع أصدقاء ووجوها كنت أراها فى مناسبات اجتماعية وكأنى أقلب فى ألبوم اصفرت أوراقه. لا أتذكر الأحاديث التى كانت تدور وقتها: ماذا كنا نقول؟ عم كنا نتحدث؟ هنا فى هذه الصورة أميل نحو صديق ويبدو أننى كنت أبوح بشىء لا أعرف ما هو.
***
بين سرعة الأحداث وصوت ارتطام الأحلام باليابسة، بين التغييرات المجتمعية ودور الإعلام الاجتماعى فى فتح مساحات للتعبير عن أمور كان مسكوتا عنها فى الإعلام الرسمى، أشعر أن أحدهم ربما داس على زرار محو الذاكرة لكل ما سبق. ألتقى أحيانا بناس لم أرهم فى العشر سنوات الماضية فلا أعرف كيف أبدأ معهم الحديث. إن لم أرهم أو أتواصل معهم وأنا أدور فى العجلة العملاقة التى تنطح السحاب، فكيف لى أن أناقش معهم أشياء اليوم؟
***
أظن أننى فقدت القدرة على التواصل مع أشخاص لم يجربوا مثلى أن يركبوا فى العجلة العملاقة ولم يجلسوا بين السحاب ولو للحظات، لم يعد عندى ما أقوله عن المشوار لذا فمن ركب فى المقعد سوف يفهم أن تمر لحظة يتوقف فيها العالم تماما وتتوقف الكلمات أيضا. لست بحاجة أن أفسر أى شىء عن الرحلة وعن عملية النهوض ثم الوقوع، سيفهم من ركب العجلة العملاقة معنى أن تنطلق نحو السماء وتتراقص مع الغيوم ثم ترمى بنظرك على كل ما هو تحتك فيكاد قلبك أن يقفز من مكانه. سيعرف من مر بالتجربة أيضا معنى أن تتبعثر كلماتك على الأرض فتختلط بالتراب وبأشلاء أحلام من سبقوك وقفزوا من مقاعدهم فلم ترحمهم البلاد.
***
يحدث إذا أن يتوقف العالم من حولى اليوم وأغرق فى صمت وظلام لا أريد حتى أن أتحسس ما حولى ولا أريد أن أقف. سوف أجلس هنا حتى يعود إلى نفسى بالتدريج فأستنشق ذكريات مخبأة بحرص بين صفحات الدفاتر وكأنها ورود أهدانى إياها أشخاص أحببتهم فجففتها بين الورق. أقلب صفحة فأتذكر الوردة التى جفت عليها وحل بعض من لونها على الكلمات. على الصفحات ملاحظات كثيرة حين أقرأها اليوم أحاول أن أسترجع اللحظة ولو لثوان أتنشق فيها الوردة الجافة فألتقط بقايا شذاها.
***
أركز نظرى على العجلة الكبيرة فأراها ما تزال ترتفع وتنرل، دوامة كبيرة كالحياة لا تتوقف، ترتفع وتعود فتهبط ثم ترتفع من جديد غير آبهة بى وبغيرى ممن يقفزون من على مقاعدها. أذكر نفسى أننى ربما فقدت القدرة على الحركة والنطق والحلم إنما ها هى الدوامة مستمرة بى وبدونى. دوامة كبيرة اسمها الحياة أجلس على مقاعدها تارة وأقفز منها تارة أخرى ثم أقرر أن مكانى هو داخلها فأعيد الكرة.