مرت قرابة السنة على العالم فى وضعه الجديد، سنة على انتقال من استطاع إلى العالم الافتراضى، عام من نظريات عن مؤامرات مقصود منها أجزاء من المعمورة أو مجموعات من الناس.
***
هى سنة من التساؤل حول الإجراءات اليومية التى يجب اتباعها، ومن تلقى النصائح والإرشادات ثم تلقى عكسها، ومن التأرجح بين الخوف والاحتراز، بين الرغبة فى الانسحاب التام من الفضاء الخارجى وبين دافع قوى للارتماء وسط الزحمة فى تحدٍ لما هو غير معروف أصلا.
***
سنة من التواجد الافتراضى والحكم على من استمر بالتواجد الجسدى، سنة من التواصل عن بعد وذكريات من الطفولة حين كان التواصل الهاتفى مرتفع الثمن بين البلاد وكانت الأسر تنتظر الرسائل فى ظروف مستطيلة على حوافها مربعات حمراء وزرقاء، فيجتمع أفراد العائلة للاستماع إلى أخبار القريب البعيد جسديا والقريب روحيا.
***
أظهرت هذه السنة فروقات إضافية بين الناس، فروقات ظالمة بحق من لا خيار لديه سوى الاستمرار بحياته وبمحاولة جنى قوته، من فضل أن يواجه الجوع الذى يعرفه على مواجهة فيروس لا يعرفه. وها هو اللقاح أتى ليعزز من الفروقات بين البلاد وبين الطبقات وبين الأفراد.
***
وضعت لائحة بما أريد أن أتذكره بعد عشرين سنة حين أحكى لمن سوف يأتون من بعدى عن ما كان قبل هذه السنة، فهم قد لا يكونوا مطلعين على الكثير مما ميز حياة جيلى من سهولة الحركة فى الزحمة أو عدم الشعور بالإحراج إن عطس أحدهم!
***
ليلة العيد: زحمة وأنوار وأصوات تملأ الروح. كانت أمى تتعمد الخروج من البيت فى ليلة العيد فى دمشق دون أن يكون فى نيتها شراء أى شيء. كانت تنسحب بهدوء من البيت وكأنها تقول أن ليلة العيد هى ليلتها مع المدينة، هو موعدها وحدها مع دمشق. لا تأخذنى معها ولم أطلب أصلا قط أن أرافقها، وكأننى فهمت منذ حينها أن لا مكان لى فى العلاقة بين أمى ودمشق فى ليلة العيد المزدحمة.
***
المسرح: يلتصق كتفى بكتف من يجلس على الكرسى التالى، نعم فلم نكن نترك كراس خالية على وقتنا فى المسرح! يعتمد حظى إذا كثيرا على من يجاورنى السكن فى العالم المتخبل خلال قرابة الساعتين. إن كان الشخص ثقيل الظل فقد يثقل على متعتى بالمشاهدة. أنا أشاهد عرضا قد أحبه أو لا، قد أشترى الفشار، لم لا ورائحته سوف تبقى فى أنفى وشعرى أصلا بعد العرض، لذا فمن الأنسب أن أشتريه على الأقل حتى تتماشى الرائحة مع الطعم.
***
القهوة: مكان مكتظ، طاولاته تكاد أن تكون متلاصقة حتى أننى أسمع قصة حب مزقها الرحيل من طاولة قربى. مكان أقرب رأسى فيه من رأس من معى حتى لا تخرج الكلمات من مترنا المربع الخشبى. أشرب القهوة بالحليب دون أن أفكر إن كان الفنجان معقما بالماء الساخن.
***
مجلس العزاء: تخيلوا أننى أشتاق إلى مجلس عزاء يليق بمن رحل؟ أذكر أننى تمنيت مرة أن يقام مجلس عزائى فى مكان محدد يستطيع كثيرون ممن أحبهم أن يصلوا إليه. بعيدا عن دراما الموت، ففى مجالس العزاء الكثير من التقارب بين ناس يضعون اختلافاتهم جانبا فى حضرة الغياب، ويظهرون الود والدفء ولو حتى لدقائق. فى صغرى كان من العيب ألا يقام مجلس عزاء، وها نحن نعزى فى فضاء أزرق اليوم وأشتاق أنا للتربيت على من أحب وأنا أتمنى لهم الصبر والسلوان!
***
التلقائية فى التواصل: أن أضم صديقة لم أرها منذ مدة وأقبل وجنتيها دون تفكير. قالت لى صديقة أخيرا أنها ارتاحت كثيرا خلال الجائحة من التلامس فهى لا تفضل أن يلمسها أحد قط. استغربت من موقفها رغم علمى باختلاف الثقافات الذى قد يفرض مسافات جسدية فى مكان ويسمح بها فى مكان آخر. أنا عن نفسى أشتاق للتقارب الجسدى.
***
لقاء يبدأ صغيرا ويكبر: أى أن أقرر أن أعزم شخصين إلى بيتى ثم أضيف آخرين خلال اليوم لأننا فى آخر المطاف مجموعة كبيرة كثيرا ما نلتقى حتى لو انقسمنا إلى حلقات أصغر أثناء. طاولة كبيرة يجتمع حولها الأصدقاء، نقاشات صاخبة وأطباق تتغير مع تغيير مكان أصحابها. يقوم البعض ويجلس آخرون، يخرج البعض إلى الشرفة للتدخين ومتابعة حديث مع من سبقهم إلى الشرفة. فكانت الخطة لأمسية هادئة مع صديقين ثم توسعت المجموعة لأن هذا هو النموذج الطبيعى فى حياتى: مجموعة أصدقاء يحيون الليلة بدفئهم وأفكارهم.
***
لا أعتقد أننا سنعود تماما كما كنا قبل الجائحة. أظن أن للعام المنصرم آثارا لن تزول. أخشى أن تختفى اللقاءات كما عرفتها، أن يتخذ التواصل دوما بعدا جسديا، ماذا عن حضور عرض، أى عرض؟ أخاف من اختفاء ما تبقى من التلقائية فى التعامل مع ما حولى، وقد اختفى الكثير منها أصلا بسبب ما فرضته الحياة الحديثة عموما من أطر لا تسمح بالتحرك بعفوية.
هو عام اشتقت فيه للأصدقاء.