بقلم :تمارا الرفاعي
فى يوم الخميس من كل أسبوع، أجلس فى كرسى من القش أمام مدخل البناء. هناك بقعة محددة قررت أنها ملكى. متر مربع لا تتركه الشمس كيفما تحركت فى السماء. بقعة سحرية لا يبللها المطر حين يهطل. اكتشفت البقعة هذه فى أول أيام انتقالى إلى المكان الجديد منذ ثلاثين عاما. كنت أقف عند الشباك أراقب المدخل فعندى ولع بسرد قصص فى عقلى من خلال وجوه أراها كل يوم: الجارة عابسة، أما الطفل فيبدو أنه سعيد. ها هى العروس الجديدة تطل على الحارة بحثا عن صديقات جدد.
***
أدهشتنى بقعة الشمس أمام المدخل فقررت أنها ملكى، وضعت يدى عليها وصرت أجر كرسيا كل يوم للتأكيد أنها مساحة مشغولة. للأمانة لم يكترث بى أحد خصوصا وأننى لا أزعج الداخل والخارج وأنا على استعداد دائم للرد على السلام أو المبادرة بحديث.
***
المكان هو شارع متوسط العرض على طرفيه شجر البرتقال، أذكر كيف اندهشت لكثرة البرتقال فى شوارع تونس حين زرتها للمرة الأولى. البرتقال ملك عام؟ يمكننى أن أمد يدى وأقطف ما أريد؟ تخيلت أننى أقطف الثمار وأعود إلى بيت لأصنع المربى ثم أرص أوعية زجاجية صغيرة ملأتها بما صنعت تحت الشجرة يأخذها من يريد.
***
الشارع إذا تظلله أشجار البرتقال ومن حيث أجلس أرى السماء. أفهم أخيرا كيف يضع أحدهم يده على مكان ويقرر أنه يملكه. أنا أملك هذا المربع فى الأرض وفى السماء: مربع يتسع لكرسى من القش وأحلام أفرشها بين أشجار البرتقال على مد البصر. هو مربع أجلس فيه لأسلم على جيرانى وأسمع قصصهم اليومية.
***
من هم الجيران؟ منذ انهار العالم انتقلت مع مجموعة أصدقاء إلى هذا المبنى. كان قرارا سريعا وحاسما أن نحافظ على ما تبقى داخلنا من أحلام وما بنيناه من صداقات، حملنا ما خف وزنه وغلا ثمنه، أى حملنا ذكرياتنا وأمانينا، وانتقلنا بهدوء إلى شارع تظلله أشجار البرتقال وتغطيه سماء يتغير لونها مع المواسم دون أن تطبق على الصدور. أعيش فى الدور الرابع من عمارة اخترت كل سكانها واختارونى. نتفق فى عموميات السياسة والدين والمواضيع الشائكة، نتفق فى ولعنا بالبحر الأبيض المتوسط وما يفرضه من طريقة للتفكير والحياة. نتفق أيضا أننا أنفقنا طاقة كبيرة فى حياتنا السابقة فى محاولات مرهقة للتغيير لن نكررها هنا. نحن اخترنا أن ننتقل معا إلى مبنى يحتضنا كما نحن، فنحن أصلا نتفق على الإطار العريض للمبادئ والحريات لذا فأظن أننا سنعيش دون منغصات.
***
أضحك حين أتذكر إعلانات كانت تستوقفنى فى آخر مدينة عشت فيها، إعلانات عن مدن جديدة محاطة بأسوار لا تشبه بيئتها بأى شكل تعد السكان بحياة مترفة ومغلقة، حياة منسلخة عن العالم من حولها بحجة أنها تحافظ على مجتمع مختار، أو «كوميونيتى» كما درج المصطلح بين هواة النوع.
***
«كوميونيتى»؟ فى بلاد اللغة والتنوع والبهارات والتطريز والحرير والسينما والأدب، يستخدم الإعلان والمجتمع الجديد كلمة «كوميونيتى» للدلالة على مجموعة من الناس سوف تعيش داخل الأسوار، لكنها ليست أسوار مدينة دمشق القديمة حيث أسرار قرون من السحر والقصص، إنما أسوار تطبق على الـ«كوميونيتى» وتساهم فى ابتعادها عن قلب المدن بينما يحاول قلب المدينة بكل الطرق أن يستمر بالخفقان.
***
الـ«كوميونيتى» خاصتى هو بناء انتقلنا إليه حين انهار العالم فقررنا أن ننتقل كمجموعة إلى الشارع البرتقالى. نحن نعيش هنا منذ عشرين عاما، نعم نعم انتقلنا فى سنة الجائحة وقبل أن يتم اختراع اللقاح، فقد ظهرت فى سنة الجائحة فداحة ما آلت إليه سنوات من الأحلام المحبطة ومحاولاتى وأصدقائى أن نقاوم الإحباط. قررنا فى جلسة سمر فى إحدى الليالى أن نحمل ما تبقى من أحلامنا فى بقج مطرزة ونأتى إلى هنا فنفرد قلوبنا تحت رائحة البرتقال.
***
هنا فى متر مربع واحد عند المدخل، نصبت نفسى مؤهلة ومسهلة بمن يدخل ويخرج. أجلس لساعات طويلة أتحدث مع من يمر كما أحب. ورائى سنوات عمرى وأمامى سنوات السمر مع من انتقل معى دون مسئوليات فلا عمل ولا أولاد أربيهم، هذا كله مضى، هنا دار الأحلام، أم هو «كوميونيتي«؟ دار من عمل بجهد للحفاظ على الأمل، من قرر أن الصداقات أهم ما فى الدنيا، وأن الأحلام مهما صغرت فهى تجرى كالدم فى العروق وتساعد القلب على الاستمرار فى الخفقان. هنا مجموعتى التى لا تحكم على ولا أحكم عليها. قد نختلف فى أمور صغيرة لكنها لا تنغص على البناء، هذا وعد قطعناه على أنفسنا قبل أن ننتقل إلى هنا.
***
ها أنا إذا ككل خميس منذ ثلاثين عاما أجلس فى الكرسى القش على مساحة متر مربع أشعر أننى أملك الكون من موقعى، وسط الـ«كوميونيتى» التى اخترتها واختارتنى حين انهار الكون من حولنا عام 2020.
(شارع أشجار البرتقال، تحت السماء:، عام 2040)