بقلم :تمارا الرفاعي
على غير العادة، قمت بعدة زيارات على مدى يومين لأمهات صديقاتى. شربت فناجين القهوة قربتنى ممن أمامى رغم مسافة ما بات يسمى بالتباعد الجسدى. تبادلت مع من زرتهن قصصا على إيقاع شوق كبير للحكايات، وذكرنا أصدقاء مشتركين عددنا أسماءهم على رائحة البن والهال، فرأيت وجوههم تتراقص فوق دخان القهوة.
***
الحقيقة أن كل زياراتى فى الأيام الماضية كانت لأمهات تسكن بناتهن فى بلاد بعيدة. أنا الدخيلة على بلدى الجديد أزور أمهات بناتهن بعيدات. حملت معى بعض الحلويات وذهبت فى زيارات أبحث فيها عن أمى التى ابتعدت عنها بسبب انتقالى للعمل فى بلد جديد.
***
ابنة تشتاق لأمها تزور أمهات اشتقن لبناتهن. وها أنا أسأل نفسى ماذا يحدث حين يخرج الأولاد من البيت؟ كيف يعاد ترتيب المكان لملء فراغ الرحيل؟ كيف يعاد توظيف الساعات دون أوقات المدرسة والغداء وزحمة الحياة مع أطفال؟ كثيرا ما أتخيل المساحة من حولى بعد رحيل أولادى فأرى سيدة تجلس على كرسى أمام الشباك. الوقت هو بعد الظهر بشمسه التى تهبط بتؤدة فتتحول الألوان فى الغرفة حتى تنتبه السيدة أن الليل قد هبط فتمد يدها لتشعل ضوءا جانبيا على الطاولة القريبة.
***
أتخيل خطا أوله وآخره مستقيمان، ووسطه يشبه صورة تخطيط القلب، قلب ينبض بالقصص وبالحياة فيه حركة كثيرة تمتد لسنوات. هذه سنوات امتلاء المنزل بالأصوات وبالتفاصيل اليومية، بالنزاعات الصغيرة وصراخ طفل يعلو عليه صوت الأم تنهر الأخوة. عيد ميلاد، وفاة جدة، أزمة عائلية، ضائقة مالية، كلها تزيد حركة الخط فى الوسط.
***
أزور إذا الأمهات وأشرب القهوة وأتحدث عن أمور يومية وتحدثنى الأمهات عن أخبار بناتهن وأحفادهن. يتغير النور المسدل علينا مع تغير موقع الشمس فى السماء ولا ينتهى الحديث. تمد كل أم يدها لتشعل الضوء القريب ولا أتحرك من مكانى حتى أحافظ على التباعد الذى بات مفروضا على الاجتماعيات بسبب الجائحة. غرف جلوس تستقبلنى فأرى على كراسيها صديقاتى الغائبات، بنات الأمهات اللاتى أزورهن.
***
قلت مرة لصديقة إنها محظوظة بأولادها الأربعة فبيتها قطعا لن يخلو من أحدهم فأجابتنى أنهم، أى أولادها، جميعهم فى بلاد بعيدة وهى تعيش فى البيت مع زوجها وتنتظر زياراتهم. اليوم أزور أمهات رتبن بيوتهن وحياتهن على إيقاع أقدام صديقاتى اللاتى رحلن منذ سنوات. رتبت الأمهات تفاصيل حياتهن فى غرف معيشة اعتادت أن تعج بالقصص والأصوات والزوار. أعدن ترتيب العفش الذى بات يستقبل الناس بالقطارة بدل المكيال، وقد زادت الجائحة وما فرضته من تباعد من وحدة الأمهات فى بيوتهن.
***
ها أنا إذا أحمل معى حلوى خبزتها فى بيتى وأزور أمهات حين أشتاق إلى أمى. أسأل زوجى عن تصوره لحياتنا ما بعد رحيل الأبناء. أعرف أن ثمة حياة كاملة لا أبناء فيها وأن لديه ولدى من الاهتمامات ما قد يشغل بعضا من أيامى على الأقل، إنما أعود من زياراتى للأمهات لأنظر بعين جديدة على غرفة الجلوس فى بيتى. هل من المعقول أن تكون يوما ما فعلا مرتبة وخالية تماما من الكراكيب؟ لا كتب مدرسية على الطاولة، لا ورقة تغليف شوكولاتة أجدها خلف كرسى، ولا لعبة على الأرض خلف التلفزيون.
***
ما الذى سوف أفرغ فيه طاقتى إن رأيت الغرفة مرتبة؟ يضحك زوجى قائلا أنه قد يذهب أيضا حين يرحل أطفالنا خوفا من أن أركز كل طاقتى عليه فيما بعد. أما أنا فأعود من زياراتى بكمية كبيرة من المحبة للأمهات ومن الاشتياق لوالدتى التى لا أزورها منذ شهور. أتخيلها على كرسيها ووالدى على الكرسى المقابل بينما يتغير نور الشمس من حولهما. تمضى أيام لا وقت عندى أن أهاتفهما لكنهما على بالى.
***
ذلك الخط المزركش كتخطيط القلب هو قلب الحياة وصوتها وألوانها. ينكمش على بعضه وسط الورقة حين تتداخل القصص ويصبح من الصعب فكها. سنوات ويستقيم الخط فتترتب غرفة الجلوس وتختفى الكتب والألعاب، يمر الشوق عبر الهاتف وتصبح الزيارة عبر الفيديو. هناك طبعا حياة قبل وحياة بعد الأولاد، هناك عالم بأكمله ينتظر أيا منا، الحياة لا تتوقف، أليس هذا ما أقوله لنفسي؟
***
يخيفنى الخط المستقيم، أخاف من أن يرحل الأولاد، أتمسك بفكرة الكراكيب فى غرفة المعيشة رغم تذمرى الدائم منها. ما زال رحيل أطفالى بعيدا بعض الشىء، إنما أريد أن أكون جاهزة إن رحلوا فلا أتفاجأ بالغياب. سوف أستمر بزيارة الأمهات وبسرد قصص حول فناجين القهوة. سوف أجلس معهن أمام الشباك بينما يتغير نور الشمس من حولنا. سوف آخذ لهن قطعة حلوى وأخرج من بيوتهن محملة بالهدايا، هكذا استقبلتنى أمهات رحلت بناتهن، أنا الابنة البعيدة عن أمها.