توقيت القاهرة المحلي 17:47:00 آخر تحديث
  مصر اليوم -

فى زيارة الأمهات

  مصر اليوم -

فى زيارة الأمهات

بقلم :تمارا الرفاعي

على غير العادة، قمت بعدة زيارات على مدى يومين لأمهات صديقاتى. شربت فناجين القهوة قربتنى ممن أمامى رغم مسافة ما بات يسمى بالتباعد الجسدى. تبادلت مع من زرتهن قصصا على إيقاع شوق كبير للحكايات، وذكرنا أصدقاء مشتركين عددنا أسماءهم على رائحة البن والهال، فرأيت وجوههم تتراقص فوق دخان القهوة.
***
الحقيقة أن كل زياراتى فى الأيام الماضية كانت لأمهات تسكن بناتهن فى بلاد بعيدة. أنا الدخيلة على بلدى الجديد أزور أمهات بناتهن بعيدات. حملت معى بعض الحلويات وذهبت فى زيارات أبحث فيها عن أمى التى ابتعدت عنها بسبب انتقالى للعمل فى بلد جديد.
***
ابنة تشتاق لأمها تزور أمهات اشتقن لبناتهن. وها أنا أسأل نفسى ماذا يحدث حين يخرج الأولاد من البيت؟ كيف يعاد ترتيب المكان لملء فراغ الرحيل؟ كيف يعاد توظيف الساعات دون أوقات المدرسة والغداء وزحمة الحياة مع أطفال؟ كثيرا ما أتخيل المساحة من حولى بعد رحيل أولادى فأرى سيدة تجلس على كرسى أمام الشباك. الوقت هو بعد الظهر بشمسه التى تهبط بتؤدة فتتحول الألوان فى الغرفة حتى تنتبه السيدة أن الليل قد هبط فتمد يدها لتشعل ضوءا جانبيا على الطاولة القريبة.
***
أتخيل خطا أوله وآخره مستقيمان، ووسطه يشبه صورة تخطيط القلب، قلب ينبض بالقصص وبالحياة فيه حركة كثيرة تمتد لسنوات. هذه سنوات امتلاء المنزل بالأصوات وبالتفاصيل اليومية، بالنزاعات الصغيرة وصراخ طفل يعلو عليه صوت الأم تنهر الأخوة. عيد ميلاد، وفاة جدة، أزمة عائلية، ضائقة مالية، كلها تزيد حركة الخط فى الوسط.
***
أزور إذا الأمهات وأشرب القهوة وأتحدث عن أمور يومية وتحدثنى الأمهات عن أخبار بناتهن وأحفادهن. يتغير النور المسدل علينا مع تغير موقع الشمس فى السماء ولا ينتهى الحديث. تمد كل أم يدها لتشعل الضوء القريب ولا أتحرك من مكانى حتى أحافظ على التباعد الذى بات مفروضا على الاجتماعيات بسبب الجائحة. غرف جلوس تستقبلنى فأرى على كراسيها صديقاتى الغائبات، بنات الأمهات اللاتى أزورهن.
***
قلت مرة لصديقة إنها محظوظة بأولادها الأربعة فبيتها قطعا لن يخلو من أحدهم فأجابتنى أنهم، أى أولادها، جميعهم فى بلاد بعيدة وهى تعيش فى البيت مع زوجها وتنتظر زياراتهم. اليوم أزور أمهات رتبن بيوتهن وحياتهن على إيقاع أقدام صديقاتى اللاتى رحلن منذ سنوات. رتبت الأمهات تفاصيل حياتهن فى غرف معيشة اعتادت أن تعج بالقصص والأصوات والزوار. أعدن ترتيب العفش الذى بات يستقبل الناس بالقطارة بدل المكيال، وقد زادت الجائحة وما فرضته من تباعد من وحدة الأمهات فى بيوتهن.
***
ها أنا إذا أحمل معى حلوى خبزتها فى بيتى وأزور أمهات حين أشتاق إلى أمى. أسأل زوجى عن تصوره لحياتنا ما بعد رحيل الأبناء. أعرف أن ثمة حياة كاملة لا أبناء فيها وأن لديه ولدى من الاهتمامات ما قد يشغل بعضا من أيامى على الأقل، إنما أعود من زياراتى للأمهات لأنظر بعين جديدة على غرفة الجلوس فى بيتى. هل من المعقول أن تكون يوما ما فعلا مرتبة وخالية تماما من الكراكيب؟ لا كتب مدرسية على الطاولة، لا ورقة تغليف شوكولاتة أجدها خلف كرسى، ولا لعبة على الأرض خلف التلفزيون.
***
ما الذى سوف أفرغ فيه طاقتى إن رأيت الغرفة مرتبة؟ يضحك زوجى قائلا أنه قد يذهب أيضا حين يرحل أطفالنا خوفا من أن أركز كل طاقتى عليه فيما بعد. أما أنا فأعود من زياراتى بكمية كبيرة من المحبة للأمهات ومن الاشتياق لوالدتى التى لا أزورها منذ شهور. أتخيلها على كرسيها ووالدى على الكرسى المقابل بينما يتغير نور الشمس من حولهما. تمضى أيام لا وقت عندى أن أهاتفهما لكنهما على بالى.
***
ذلك الخط المزركش كتخطيط القلب هو قلب الحياة وصوتها وألوانها. ينكمش على بعضه وسط الورقة حين تتداخل القصص ويصبح من الصعب فكها. سنوات ويستقيم الخط فتترتب غرفة الجلوس وتختفى الكتب والألعاب، يمر الشوق عبر الهاتف وتصبح الزيارة عبر الفيديو. هناك طبعا حياة قبل وحياة بعد الأولاد، هناك عالم بأكمله ينتظر أيا منا، الحياة لا تتوقف، أليس هذا ما أقوله لنفسي؟
***
يخيفنى الخط المستقيم، أخاف من أن يرحل الأولاد، أتمسك بفكرة الكراكيب فى غرفة المعيشة رغم تذمرى الدائم منها. ما زال رحيل أطفالى بعيدا بعض الشىء، إنما أريد أن أكون جاهزة إن رحلوا فلا أتفاجأ بالغياب. سوف أستمر بزيارة الأمهات وبسرد قصص حول فناجين القهوة. سوف أجلس معهن أمام الشباك بينما يتغير نور الشمس من حولنا. سوف آخذ لهن قطعة حلوى وأخرج من بيوتهن محملة بالهدايا، هكذا استقبلتنى أمهات رحلت بناتهن، أنا الابنة البعيدة عن أمها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فى زيارة الأمهات فى زيارة الأمهات



GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 15:26 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو وميسي على قائمة المرشحين لجوائز "غلوب سوكر"
  مصر اليوم - رونالدو وميسي على قائمة المرشحين لجوائز غلوب سوكر

GMT 00:04 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية
  مصر اليوم - حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 15:30 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ميتا تعتزم إضافة الإعلانات إلى ثردز في 2025
  مصر اليوم - ميتا تعتزم إضافة الإعلانات إلى ثردز في 2025

GMT 08:11 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

هيفاء وهبي بإطلالات متنوعة ومبدعة تخطف الأنظار

GMT 15:47 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2018 الإثنين ,16 إبريل / نيسان

المدرب الإسباني أوناي إيمري يغازل بيته القديم

GMT 01:04 2021 السبت ,25 كانون الأول / ديسمبر

جالاتا سراي التركي يفعل عقد مصطفى محمد من الزمالك

GMT 05:34 2021 السبت ,13 شباط / فبراير

تعرف على السيرة الذاتية للمصرية دينا داش

GMT 20:42 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

طريقة عمل جاتوه خطوة بخطوة

GMT 23:05 2020 الخميس ,24 كانون الأول / ديسمبر

يونيون برلين الألماني يسجل خسائر بأكثر من 10 ملايين يورو

GMT 02:11 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

طبيب روسي يكشف أخطر عواقب الإصابة بكورونا
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon